وإذا أصاب الإنسانَ الشدةُ استغاث بنا في كشف ذلك عنه مضطجعًا لجنبه أو قاعدًا أو قائمًا، على حسب الحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرِّ به. فلما كشفنا عنه الشدة التي أصابته استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، ونسي ما كان فيه من الشدة والبلاء، وترك الشكر لربه الذي فرَّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء، كما زُيِّن لهذا الإنسان استمراره على جحوده وعناده بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر، زُيِّن للذين أسرفوا في الكذب على الله وعلى أنبيائه ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك به.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وإذا مس الإنسان» الكافر «الضُّرُّ» المرض والفقر «دعانا لجنبه» أي مضطجعا «أو قاعدا أو قائما» أي في كل حال «فلما كشفنا عنه ضُره مرَّ» على كفره «كأن» مخففة واسمها محذوف، أي كأنه «لم يدعنا إلى ضرٍّ مسه كذلك» كما زُيّن له الدعاء عند الضرر والإعراض عند الرخاء «زُيِّن للمسرفين» المشركين «ما كانوا يعملون».
﴿ تفسير السعدي ﴾
وهذا إخبار عن طبيعة الإنسان من حيث هو، وأنه إذا مسه ضر، من مرض أو مصيبة اجتهد في الدعاء، وسأل الله في جميع أحواله، قائما وقاعدا ومضطجعا، وألح في الدعاء ليكشف الله عنه ضره.فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ أي: استمر في غفلته معرضا عن ربه، كأنه ما جاءه ضره، فكشفه الله عنه، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟" يطلب من الله قضاء غرضه، فإذا أناله إياه لم ينظر إلى حق ربه، وكأنه ليس عليه لله حق. وهذا تزيين من الشيطان، زين له ما كان مستهجنا مستقبحا في العقول والفطر.كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ أي: المتجاوزين للحد مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( وإذا مس الإنسان الضر ) الجهد والشدة ، ( دعانا لجنبه ) أي : على جنبه مضطجعا ، ( أو قاعدا أو قائما ) يريد في جميع حالاته ، لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات . ( فلما كشفنا ) دفعنا ( عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) أي استمر على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر ، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء ، كأنه لم يدعنا إلى ضر مسه أي : لم يطلب منا كشف ضر مسه . ( كذلك زين للمسرفين ) المجاوزين الحد في الكفر والمعصية ، ( ما كانوا يعملون ) من العصيان . قال ابن جريج : كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون من الدعاء عند البلاء وترك الشكر عند الرخاء . وقيل : معناه كما زين لكم أعمالكم زين للمسرفين الذين كانوا من قبلكم أعمالهم .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم صور- سبحانه- طبيعة الإنسان في حالتي العسر واليسر فقال: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ ...والمس: اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإحساس والإصابة.والضر: ما يصيب الإنسان من سوء الحال في نفسه أو بدنه أو غيرهما مما يحبه ويشتهيه.والمعنى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ عن طريق المرض أو الفقر أو غيرهما دَعانا بإلحاح وتضرع لكي نكشفه عنه، فهو تارة يدعونا وهو مضطجع على جنبه، وتارة يدعونا وهو قاعد، وتارة يدعونا وهو قائم على قدميه.فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ وما أصابه من سوء مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أى:مضى واستمر في غفلته الأولى حتى لكأنه لم تنزل به كروب، ولم يسبق له أن دعانا بإلحاح لكشفها.وخص- سبحانه- هذه الأحوال بالذكر، لعدم خلو الإنسان عنها في العادة.وقيل: يصح أن يراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار، لأنها قد تكون خفيفة فيدعو الله وهو قائم، وقد تكون متوسطة فيدعوه وهو قاعد، وقد تكون ثقيلة فيدعوه وهو نائم.ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: «فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟قلت: معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها، سواء أكان منبطحا عاجزا عن النهوض، أم كان قاعدا لا يقدر على القيام، أم كان قائما لا يطيق المشي.ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشد حالا وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف، وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأن الإنسان للجنس..» .وفي التعبير بالمس إشارة إلى أن ما أصابه من ضر حتى ولو كان يسيرا فإنه لا يترك الدعاء والابتهال إلى الله بأن يكشفه عنه.وقوله لِجَنْبِهِ في موضع الحال من فاعل دَعانا وأَوْ لتنويع الأحوال، أو لأصناف المضار.والتعبير بقوله- سبحانه- مَرَّ يمثل أدق تصوير لطبيعة الإنسان الذي يدعو الله عند البلاء، وينساه عند الرخاء، فهو في حالة البلاء يدعو الله في كل الأحوال، فإذا ما انكشف عنه البلاء مر واندفع في تيار الحياة. بدون كابح، ولا زاجر، ولا مبالاة، وبدون توقف ليتدبر أو ليعتبر ...ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى: كما زين لهذا الإنسان الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء، زين لهؤلاء المسرفين المتجاوزين لحدود الله، ما كانوا يعملونه من إعراض عن ذكره، ومن غفلة عن حكمته وعن سننه في كونه.قال الآلوسى: «وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء، ويهرع إليه في الشدة، واللائق بحال العاقل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء، فإن ذلك أرجى للإجابة. ففي الحديث الشريف: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» .وأخرج أبو الشيخ عن أبى الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك.وفي حديث للترمذي عن أبى هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكروب، فليكثر من الدعاء عند الرخاء» .وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «وقد ذم الله- تعالى- من هذه طريقته وصفته في الدعاء. أما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك، - لأنه يدعو الله في الشدة والرخاء-، وفي الحديث الشريف: «عجبا لأمر المؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» .وبعد أن بين- سبحانه- جانبا من شأنه مع الناس ومن شأنهم معه. أتبع ذلك ببيان مصير الأمم الظالمة ليكون في ذلك عبرة وعظة فقال- تعالى-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر ، كقوله : ( وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) [ فصلت : 51 ] أي : كثير ، وهما في معنى واحد ؛ وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها ، وأكثر الدعاء عند ذلك ، فدعا الله في كشفها وزوالها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه ، وفي جميع أحواله ، فإذا فرج الله شدته وكشف كربته ، أعرض ونأى بجانبه ، وذهب كأنه ما كان به من ذاك شيء ، ( مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه )ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال : ( كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ) فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد ، فإنه مستثنى من ذلك ، كما قال تعالى : ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) [ هود : 11 ] ، وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له " ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملونقوله تعالى وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه قيل : المراد بالإنسان هنا الكافر ، قيل : هو أبو حذيفة بن المغيرة المشرك ، تصيبه البأساء والشدة والجهد . دعانا لجنبه أي على جنبه مضطجعا .أو قاعدا أو قائما وإنما أراد جميع حالاته ; لأن الإنسان لا يعدو إحدى هذه الحالات الثلاث . قال بعضهم : إنما بدأ بالمضطجع لأنه بالضر أشد في غالب الأمر ، فهو يدعو أكثر ، واجتهاده أشد ، ثم القاعد ثم القائم .فلما كشفنا عنه ضره مر أي استمر على كفره ولم يشكر ولم يتعظ . قلت : وهذه صفة كثير من المخلصين الموحدين ، إذا أصابته العافية مر على ما كان عليه من المعاصي ; فالآية تعم الكافر وغيره .كأن لم يدعنا قال الأخفش : هي " كأن " الثقيلة خففت ، والمعنى كأنه وأنشد :وي كأن من يكن له نشب يح بب ومن يفتقر يعش عيش ضركذلك زين أي كما زين لهذا الدعاء عند البلاء والإعراض عن الرخاء . زين للمسرفين أي للمشركين أعمالهم من الكفر والمعاصي . وهذا التزيين يجوز أن يكون من الله ، ويجوز أن يكون من الشيطان ، وإضلاله دعاؤه إلى الكفر .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الإنسان الشدة والجهد (29) ، (دعانا لجنبه) ، يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه ، ( لجنبه) ، يعني مضطجعًا لجنبه. ، (أو قاعدًا أو قائمًا) بالحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرّ به ، (فلما كشفنا عنه ضره) ، يقول: فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه (30) ، (مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) ، يقول: استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، (31) ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي فرّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به، وعاد للشرك ودَعوى الآلهةِ والأوثانِ أربابًا معه. يقول تعالى ذكره: (كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون) ، يقول: كما زُيِّن لهذا الإنسان الذي وصفنا صفتَه ، (32) استمرارُه على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر، كذلك زُيّن للذين أسرفوا في الكذِب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، (33) ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك وبه.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:17578- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (دعانا لجنبه) ، قال: مضطجعًا.--------------------------الهوامش :(29) انظر تفسير " المس " فيما سلف 14 : 64 ، تعليق : 2 ، والمراجع هناك . ، وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة ( ضرر ) .(30) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف 11 : 354 / 13 : 73 .(31) انظر تفسير " مر " فيما سلف 13 : 304 ، 305 .(32) انظر تفسير " التزيين " فيما سلف 14 : 245 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .(33) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف 12 : 458 ، تعليق : 1 ، والمراجع هناك .
﴿ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ﴾