قل -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين: لمن مُلكُ السموات والأرض وما فيهن؟ قل: هو لله كما تقرون بذلك وتعلمونه، فاعبدوه وحده. كتب الله على نفسه الرحمة فلا يعجل على عباده بالعقوبة. ليجمعنكم إلى يوم القيامة الذي لا شك فيه للحساب والجزاء. الذين أشركوا بالله أهلكوا أنفسهم، فهم لا يوحدون الله، ولا يصدقون بوعده ووعيده، ولا يقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله» إن لم يقولوه لا جواب غيره «كتب على نفسه» قضى على نفسه «الرحمة» فضلا منه وفيه تلطف في دعائهم إلى الإيمان «لَيجمعنكم إلى يوم القيامة» ليجازيكم بأعمالكم «لا ريب» شك «فيه الذين خسروا أنفسهم» بتعريضها للعذاب مبتدأ خبره «فهم لا يؤمنون».
﴿ تفسير السعدي ﴾
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ لهؤلاء المشركين بالله، مقررا لهم وملزما بالتوحيد: لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: مَن الخالق لذلك، المالك له، المتصرف فيه؟ قُلْ لهم: لِلَّهِ وهم مقرون بذلك لا ينكرونه، أفلا حين اعترفوا بانفراد الله بالملك والتدبير، أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد؟". وقوله كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي: العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره، وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه، وتغمدهم برحمته وامتنانه، وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه، وأن العطاء أحب إليه من المنع، وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة، إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم، ودعاهم إليها، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم، وقوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وهذا قسم منه، وهو أصدق المخبرين، وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين، ما يجعله حق اليقين، ولكن أبى الظالمون إلا جحودا، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق، فأوضعوا في معاصيه، وتجرءوا على الكفر به، فخسروا دنياهم وأخراهم، ولهذا قال: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( قل لمن ما في السموات والأرض ) فإن أجابوك وإلا ف ( قل ) أنت ، ( لله ) أمره بالجواب عقيب السؤال ليكون أبلغ في التأثير وآكد في الحجة ، ( كتب ) أي : قضى ، ( على نفسه الرحمة ) هذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال عليه وإخباره بأنه رحيم بالعباد لا يعجل بالعقوبة ، ويقبل الإنابة والتوبة .أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أخبرنا أبو طاهر الزيادي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي " .وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة : " إن رحمتي [ سبقت ] غضبي .أخبرنا الشيخ أبو القاسم عبد الله بن علي الكركاني أنا أبو طاهر الزيادي أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا عبد الرحمن المروزي أخبرنا عبد الله بن المبارك أنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لله رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ، وبها يتراحمون ، وبها تتعاطف الوحوش على أولادها ، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة " .أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا ابن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها ، تسعى إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم : " أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فقلنا : لا وهي تقدر على أن لا تطرحه ، فقال : الله أرحم بعباده من هذه بولدها " .قوله عز وجل : ( ليجمعنكم ) اللام فيه لام القسم والنون نون التأكيد ، مجازه : والله ليجمعنكم ، ( إلى يوم القيامة ) أي : في يوم القيامة ، وقيل : معناه ليجمعنكم في قبوركم إلى يوم القيامة ، ( لا ريب فيه الذين خسروا ) غبنوا ، ( أنفسهم فهم لا يؤمنون )
﴿ تفسير الوسيط ﴾
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين- على سبيل التوبيخ والتنبيه- من الذي يملك السموات والأرض وما فيهما من إنس وجن وحيوان ونبات وغير ذلك من المخلوقات، إن الإجابة الصحيحة التي يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها أن جميع المخلوقات لله رب العالمين.قال- تعالى- وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم على عنادهم، وتنبيههم إلى ضلالهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم.قال الإمام الرازي: وقوله: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سؤال، وقوله قُلْ لِلَّهِ جواب. فقد أمره الله- تعالى- بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا، وهذا إنما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع، وهنا كذلك لأن القوم كانوا معترفين بأن العالم كله لله وتحت تصرفه وقهره وقدرته».ثم قال- تعالى- كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أى: أوجب- سبحانه- على نفسه رحمته التي وسعت كل شيء والتي من مظاهرها أنه منح خيره ونعمه في الدنيا للطائعين والعصاة، وأنه سيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى.وفي الصحيحين عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش، إن رحمتي تغلب غضبى» .وجملة، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، يرى بعض العلماء أنها جواب لقسم محذوف أى: والله ليجمعنكم، وجملة القسم والجواب لا محل لها من الإعراب، وإن تعلقت بما قبلها من حيث المعنى وعلى هذا الرأى يكون الكلام قد تم عند قوله- تعالى- كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.ويرى الزجاج ومن شايعه أن جملة (ليجمعنكم) في محل نصب بدل من الرحمة، وفسر (ليجمعنكم) بمعنى أمهلكم وأمد لكم في العمر والرزق مع كفركم، فهو تفسير الرحمة، كما قال- تعالى- في السورة نفسها (كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم) .والمقصود بهذه الجملة الكريمة (ليجمعنكم) بيان عدل الله بين عباده. فهو لم يجمعهم يوم القيامة لتعذيبهم جميعا، وإنما يجمعهم لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء.ولما كان الكافرون ينكرون حصول البعث والحساب فقد أكد الله- تعالى- حصولهما باللام وبنون التوكيد الثقيلة، وبتعدية الفعل بإلى دون في للإشارة إلى أن هذا الجمع نهايته يوم القيامة- وبأنه يوم لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته.ثم ختمت الآية الكريمة ببيان عاقبتهم السيئة فقال- تعالى- الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. أى: الذين خسروا أنفسهم بانطماس فطرتهم، وإصرارهم على العناد والجمود، لا يتسرب الإيمان إلى قلوبهم لأنها قست وأظلمت.قال الآلوسى: (الفاء) في قوله (فهم لا يؤمنون) - للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان) .
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة ، كما ثبت في الصحيحين ، من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، - رضي الله عنه - ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش ، إن رحمتي تغلب غضبي "وقوله : ( ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ) هذه اللام هي الموطئة للقسم ، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده لميقات يوم معلوم [ وهو يوم القيامة ] الذي لا ريب فيه ولا شك فيه عند عباده المؤمنين ، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون .وقال ابن مردويه عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عقبة ، حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا محصن بن عقبة اليماني ، عن الزبير بن شبيب ، عن عثمان بن حاضر ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوقوف بين يدي رب العالمين ، هل فيه ماء؟ قال : " والذي نفسي بيده ، إن فيه لماء ، إن أولياء الله ليردون حياض الأنبياء ، ويبعث الله تعالى سبعين ألف ملك في أيديهم عصي من نار ، يذودون الكفار عن حياض الأنبياء " .هذا حديث غريب وفي الترمذي : " إن لكل نبي حوضا ، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة ، وأرجو أن أكون أكثرهم واردةولهذا قال : ( الذين خسروا أنفسهم ) [ أي يوم القيامة ] ( فهم لا يؤمنون ) أي : لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : قل لمن ما في السماوات والأرض هذا أيضا احتجاج عليهم ; المعنى قل لهم يا محمد : لمن ما في السماوات والأرض فإن قالوا لمن هو ؟ فقل هو لله المعنى : إذا ثبت أن له ما في السماوات والأرض وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم ، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ، ويبعثهم بعد الموت . ولكنه كتب على نفسه الرحمة أي : وعد بها فضلا منه وكرما ، فلذلك أمهل ، وذكر النفس هنا عبارة عن وجوده ، وتأكيد وعده ، وارتفاع الوسائط دونه ; ومعنى الكلام الاستعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه ، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم الإنابة والتوبة . وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي أي : لما أظهر قضاءه وأبرزه لمن شاء أظهر كتابا في اللوح المحفوظ - أو فيما شاءه - مقتضاه خبر حق ووعد صدق إن رحمتي تغلب غضبي أي : تسبقه وتزيد عليه .قوله تعالى : ليجمعنكم اللام لام القسم ، والنون نون التأكيد . وقال الفراء وغيره : يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله : الرحمة ويكون ما بعده مستأنفا على جهة التبيين ; فيكون معنى ليجمعنكم ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم . وقيل : المعنى ليجمعنكم أي : في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه . وقيل : إلى بمعنى في ، أي : ليجمعنكم في يوم القيامة . وقيل : يجوز أن يكون موضع ليجمعنكم نصبا على البدل من الرحمة ; فتكون اللام بمعنى ( أن ) المعنى : كتب ربكم على نفسه ليجمعنكم ، أي : أن يجمعكم ; وكذلك قال كثير من النحويين في قوله تعالى : ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه أي : أن يسجنوه . وقيل : موضعه نصب ب كتب ; كما تكون ( أن ) في قوله عز وجل كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة وذلك أنه مفسر للرحمة بالإمهال إلى يوم القيامة ; عن الزجاج . لا ريب فيه لا شك فيه . الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ابتداء وخبر ، قاله الزجاج ، وهو أجود ما قيل فيه ; تقول : الذي يكرمني فله درهم ، فالفاء تتضمن معنى الشرط والجزاء . وقال الأخفش : إن شئت كان الذين في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في ليجمعنكم أي : ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم ; وأنكره المبرد وزعم أنه خطأ ; لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب ، لا يقال : مررت بك زيد ولا مررت بي زيد لأن هذا لا يشكل فيبين . قال القتبي : يجوز أن يكون الذين جزاء على البدل من المكذبين الذين تقدم ذكرهم . أو على النعت لهم . وقيل : الذين نداء مفرد .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَقال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم: " قل "، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم =" لمن ما في السماوات والأرض "، يقول: لمن ملك ما في السماوات والأرض؟ ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبدَ كل شيء، وقهر كل شيء بملكه وسلطانه = لا للأوثان والأنداد، ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلهًا من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضُرًّا.وقوله: " كتب على نفسه الرحمة " ، يقول: قضى أنَّه بعباده رحيم, لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة. (6)وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة.يقول تعالى ذكره: أن هؤلاء العادلين بي، الجاحدين نبوّتك، يا محمد, إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم, وإني قد قضيت في خَلْقي أنّ رحمتي وسعت كل شيء، كالذي:-13096 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن ذكوان, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما فرغ الله من الخلق، كتب كتابًا: " إنّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي". (7)13097 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: إنّ الله تعالى ذكره لما خلق السماء والأرض, خلق مئة رحمةٍ, كل رحمة ملء ما بين السماء إلى الأرض. فعنده تسع وتسعون رحمةً, وقسم رحمة بين الخلائق. فبها يتعاطفون، وبها تشرب الوَحْش والطير الماءَ. فإذا كان يوم ذلك، (8) قصرها الله على المتقين، وزادهم تسعًا وتسعين. (9)13098- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن أبي عثمان, عن سلمان، نحوه = إلا أن ابن أبي عدي لم يذكر في حديثه: " وبها تشرب الوحش والطير الماء ". (10)13099- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السماوات والأرض, ثم خلق مئة رحمة = أو: جعل مئة رحمة = قبل أن يخلق الخلق. ثم خلق الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال: فبها يتراحمون, وبها يتباذلون, وبها يتعاطفون, وبها يتزاورون, (11) وبها تحنُّ الناقة, وبها تثُوجُ البقرة, (12) وبها تيعر الشاة, (13) وبها تتَّابع الطير, وبها تتَّابع الحيتان في البحر. (14) فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده. ورحمته أفضل وأوسع.13100- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان في قوله: " كتب على نفسه الرحمة " ، الآية قال: إنا نجد في التوراة عَطْفتين= ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: (15) " وبها تَتَابع الطير, وبها تَتَابع الحيتان في البحر ". (16)13101 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال ابن طاوس, عن أبيه: إن الله تعالى ذكره لما خلق الخلق, لم يعطف شيء على شيء, حتى خلق مئة رحمة, فوضع بينهم رحمة واحدة, فعطف بعضُ الخلق على بعض.13102- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه، بمثله .13103 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، وأخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبته أسنده قال: إذا فرغ الله عز وجلّ من القضاء بين خلقه, أخرج كتابًا من تحت العرش فيه: " إن رحمتي سبقت غضبي, وأنا أرحم الراحمين " ، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة = أو قال: " مِثلا أهل الجنة ", ولا أعلمه إلا قال: " مثلا ", وأما " مثل " فلا أشك = مكتوبًا ها هنا, وأشار الحكم إلى نحره," عتقاء الله " ، فقال رجل لعكرمة: يا أبا عبد الله, فإن الله يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [سورة المائدة: 37] ؟ قال: ويلك ! أولئك أهلها الذين هم أهلها.13104- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبت أنه أسنده قال: إذا كان يوم القيامة، أخرج الله كتابًا من تحت العرش = ثم ذكر نحوه, غير أنه قال: فقال رجل: يا أبا عبد الله, أرأيت قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ = وسائر الحديث مثل حديث ابن عبد الأعلى .13105- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: " إنّ رحمتي سبقت غضبي". (17)13106 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن لله مئة رحمة, فأهبط رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجن والإنس، وطائر السماء، وحيتان الماء، ودوابّ الأرض وهوامّها. وما بين الهواء. واختزن عنده تسعًا وتسعين رحمة, حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمةَ التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا, (18) فحواها إلى ما عنده, فجعلها في قلوب أهل الجنة، وعلى أهل الجنة. (19)13107 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: قال عبد الله بن عمرو: إن لله مئة رحمة, أهبط منها إلى الأرض رحمة واحدة، يتراحم بها الجنّ والإنس، والطير والبهائم وهوامُّ الأرض.13108 - حدثنا محمد بن عوف قال، أخبرنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج قال، حدثنا صفوان بن عمرو قال، حدثني أبو المخارق زهير بن سالم قال، قال عمر لكعب: ما أوَّل شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد, ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت (20) " أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي". (21)* * *القول في تأويل قوله : لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِقال أبو جعفر: وهذه " اللام " التي في قوله: " ليجمعنكم " ، لام قسم .* * *ثم اختلف أهل العربية في جالبها, فكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت " الرحمة " غاية كلام، ثم استأنفت بعدها: " ليجمعنكم ". قال: وإن شئت جعلتَه في موضع نصب = يعني: كتب ليجمعنكم = كما قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [سورة الأنعام: 54] ، يريد: كتب أنه من عمل منكم = قال: والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جوابُ كلام الأيمان ب " أن " المفتوحة وب " اللام ", (22) فيقولون: " أرسلت إليه أن يقوم "," وأرسلت إليه ليقومن ". قال: وكذلك قوله: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ، [سورة يوسف: 35] . قال: وهو في القرآن كثير. ألا ترى أنك لو قلت: " بدا لهم أن يسجنوه ", لكان صوابًا؟ (23) وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصبت " لام "" ليجمعنكم " ، لأن معنى: " كتب " [: فرضَ، وأوجب، وهو بمعنى القسم] ، (24) كأنه قال: والله ليجمعنكم.* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يكون قوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، غايةً, وأن يكون قوله: " ليجمعنكم " ، خبرًا مبتدأ = ويكون معنى الكلام حينئذ: ليجمعنكم الله، أيها العادلون بالله، ليوم القيامة الذي لا ريب فيه، لينتقم منكم بكفركم به.وإنما قلت: هذا القول أولى بالصواب من إعمال " كتب " في" ليجمعنكم " ، لأن قوله: " كتب " قد عمل في الرحمة, فغير جائز، وقد عمل في" الرحمة "، أن يعمل في" ليجمعنكم " ، لأنه لا يتعدَّى إلى اثنين.* * *فإن قال قائل: فما أنت قائل في قراءة من قرأ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ ، [سورة الأنعام: 54] بفتح " أنّ" ؟قيل: إن ذلك إذ قرئ كذلك, فإن " أنّ" بيانٌ عن " الرحمة "، وترجمة عنها. لأن معنى الكلام: كتب على نفسه الرحمة أن يرحم [ من تاب ] من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة ويعفو، (25) و " الرحمة "، يترجم عنها ويبيَّن معناها بصفتها. وليس من صفة الرحمة " ليجمعنكم إلى يوم القيامة " ، فيكون مبينًا به عنها. فإذ كان ذلك كذلك, فلم يبق إلا أن تنصب بنية تكرير " كتب " مرة أخرى معه, ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك، فيوجَّه إلى ما ليس بموجود في ظاهره.وأما تأويل قوله: " لا ريب فيه " ، فإنه لا شك فيه, (26) يقول: في أنّ الله يجمعكم إلى يوم القيامة، فيحشركم إليه جميعًا, ثم يؤتى كلَّ عامل منكم أجرَ ما عمل من حسن أو سيئ .* * *القول في تأويل قوله : الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: " الذين خسروا أنفسهم " ، العادلين به الأوثانَ والأصنامَ. يقول تعالى ذكره: ليجمعن الله =" الذين خسروا أنفسهم ", يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الندَّ والعَدِيل, فأوبقوها باستيجابهم سَخَط الله وأليم عقابه في المعاد. (27)* * *وأصل " الخسار "، الغُبْنُ. يقال منه ": خسر الرجل في البيع "، إذا غبن, كما قال الأعشى:لا يَأخُذُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِوَلا يُبَالِي خَسَرَ الخَاسِر (28)وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. (29)* * *وموضوع " الذين " في قوله: " الذين خسروا أنفسهم " ، نصبٌ على الرد على " الكاف والميم " في قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ ، على وجه البيان عنها. وذلك أنّ الذين خسروا أنفسهم, هم الذين خوطبوا بقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ .* * *وقوله: " فهم لا يؤمنون " ، يقول: " فهم "، لإهلاكهم أنفسهم وغَبْنهم إياه حظَّها =" لا يؤمنون ", أي لا يوحِّدون الله، ولا يصدِّقون بوعده ووعيده، ولا يقرُّون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.---------------------الهوامش :(6) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 10: 359 ، تعليق : 1.(7) الأثر: 13096 - إسناده صحيح. وهو حديث مشهور."ذكوان" ، هو"أبو صالح".ورواه البخاري (الفتح 13: 325) من طريق أبي حمزة ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، بغير هذا اللفظ ، مطولا.وانظر تعليق أخي السيد أحمد على المسند رقم: 7297 ، 7491 ، 7520.(8) في المطبوعة: "فإذا كان يوم القيامة ، قصرها" ، وأثبت ما في المخطوطة. وأما سائر المراجع فذكرت ما كان في المطبوعة. والذي في المخطوطة جائز ، فإن"ذلك" إشارة إلى معهود معروف ، وهو يوم القيامة.(9) الأثران: 13097 ، 13098 -"داود" ، هو"داود بن أبي هند" مضى مرارًا.و"أبو عثمان" ، هو"أبو عثمان النهدي": "عبد الرحمن بن مل بن عمرو بن عدي النهدي" ، تابعي ثقة ، أدرك الجاهلية. مترجم في التهذيب.(10) الأثران: 13097 ، 13098 -"داود" ، هو"داود بن أبي هند" مضى مرارًا.و"أبو عثمان" ، هو"أبو عثمان النهدي": "عبد الرحمن بن مل بن عمرو بن عدي النهدي" ، تابعي ثقة ، أدرك الجاهلية. مترجم في التهذيب.(11) في المخطوطة ، فوق"يتزاورون" ، حرف (ط) ، دلالة على الشك أو الخطأ. ولا أدري ما أراد بذلك ، والذي في المخطوطة والمطبوعة ، مثله في الدر المنثور.(12) في المطبوعة: "تنئج البقرة" ، وفي الدر المنثور: "تنتج البقرة" ، وهو خطأ.والذي في المطبوعة ، صواب في المعنى. يقال: "نأج الثور ينئج" ، إذا صاح. وأما الذي في المخطوطة ، فهو صواب أيضًا ، ولذلك أثبته ، يقال: "ثاجت البقرة تثاج وتثوج ، ثوجًا وثواجًا": صوتت. قال صاحب اللسان: "وقد يهمز ، وهو أعرف. إلا أن ابن دريد قال: ترك الهمز أعلى".(13) "يعرت الشاة تيعر يعارًا": صاحت.(14) أنا في شك في قوله"تتابع الطير" و"تتابع الحيتان" ، ولكن هكذا هو المطبوعة والمخطوطة ، وهو معنى شبيه بالاستقامة. وانظر التعليق التالي.(15) في المطبوعة: "إلا أنه ما قال" ، زاد"ما" ، لأنه استشكل عليه الكلام ، فإن الذي قاله في هذا الخبر ، هو الذي قاله في الخبر السالف. والظاهر والله أعلم أن الأولى كما ضبطتها هناك"تتابع" (بفتح ثم تاء مفتوحة مشددة) وأن هذه الثانية"تتابع" (بفتح التاء الثانية غير مشددة) على حذف إحدى التاءات الثلاث.(16) الأثران: 13099 ، 13100 - خرجهما السيوطي في الدر المنثور 3: 6 ، وقال: "أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سلمان . . ." ، وساق الخبر.(17) الأثر: 13105 - رواه أحمد في مسنده بهذا الإسناد رقم: 8112 ، ولفظه: "غلبت غضبي". وانظر تعليق أخي السيد أحمد عليه هناك. وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: 13096.(18) "اختلج الشيء": جذبه وانتزعه.(19) الأثر: 13106 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 6 ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وأبي الشيخ.(20) هكذا في المطبوعة ، وفي الدر المنثور ، "يتلوها" ، وهي في المخطوطة كذلك ، إلا أنها غير منقوطة ، وأنا في ريب من أمر هذا الحرف ، أخشى أن يكون محرفًا عن شيء آخر لم أتبينه ، وإن كان المعنى مستقيما على ضعف فيه.(21) الأثر: 13108 -"محمد بن عوف بن سفيان الطائي" ، شيخ الطبري مضى ، برقم: 5445 ، 12194.و"أبو المغيرة" : عبد القدوس بن الحجاج الخولاني" ، مضى برقم: 10371 ، 12194.و"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي" ، مضى برقم: 7009 ، 12807.و"أبو المخارق": "زهير بن سالم العنسي". ذكره ابن حبان في الثقات ، "روى له أبو داود وابن ماجه حديثًا واحدًا". وقال الدارقطني: "حمصي ، منكر الحديث" ، مترجم في التهذيب ، والكبير 2/1/390 ، وابن أبي حاتم 1/2/587 ، وميزان الاعتدال 1: 353.وهذا الخبر ، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 6 ، ولم ينسبه لغير ابن جرير. وهو خبر كما ترى ، عن كعب الأحبار ، مشوب بما كان من دأبه في ذكر الإسرائليات.(22) هكذا في المطبوعة والمخطوطة ، وهو في معاني القرآن"جواب الأيمان" ، وهو الأجود.(23) انظر معاني القرآن للفراء 1: 328. وهذا نص كلامه.(24) الزيادة التي بين القوسين ، استظهرتها من سياق التفسير ، ليستقيم الكلام. وهي ساقطة من المخطوطة والمطبوعة.(25) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام ، استظهرتها من معنى الآية. وانظر ما سيأتي في تفسيرها ص: 392 ، 393.(26) انظر تفسير"الريب" فيما سلف 8: 592 ، تعليق: 5 ، والمراجع هناك.(27) في المطبوعة والمخطوطة "بإيجابهم سخط الله" وهو لا يستقيم صوابه ما أثبت.(28) ديوانه: 105 ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 187. وهكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة"خسر الخاسر" ، ورواية ديوانه وغيره: "غَبَنَ الْخَاسِر" بتحريك الباء بالفتح. والذي نص عليه أصحاب اللغة أن"الغبن" بفتح وسكون ، في البيع ، وأن"الغبن" (بفتحتين) في الرأي ، وهو ضعفه. فكأن ما جاء في رواية ديوان الأعشى ، ضرورة ، حركت الباء وهي ساكنة إلى الفتح. وأما رواية أبي جعفر ، فهي على الصواب يقال: "خسر خسرًا (بفتح فسكون) ، وخسرًا (بفتحتين)."وهذا البيت من قصيدته في هجاء علقمة بن علاثة ومدح عامر بن الطفيل ، ذكرت خبرها في أبيات سلفت منها 1: 474/2 : 131/5 : 477 ، 478. وقبل البيت:حَكَّمْتُمُونِي، فَقَضَى بَيْنَكُمْأَبْلَجُ مِثْلُ القَمَرِ البَاهِرِ(29) انظر تفسير"الخسار" فيما سلف 10: 409 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك.
﴿ قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ﴾