ما كان ينبغي لأهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن حولهم من سكان البادية أن يتخلَّفوا في أهلهم ودورهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يرضوا لأنفسهم بالراحة والرسول صلى الله عليه وسلم في تعب ومشقة؛ ذلك بأنهم لا يصيبهم في سفرهم وجهادهم عطش ولا تعب ولا مجاعة في سبيل الله، ولا يطؤون أرضًا يُغضِبُ الكفارَ وطؤهم إياها، ولا يصيبون مِن عدو الله وعدوهم قتلا أو هزيمةً إلا كُتِب لهم بذلك كله ثواب عمل صالح. إن الله لا يضيع أجر المحسنين.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله» إذا غزا «ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه» بأن يصونوها عما رضيه لنفسه من الشدائد، وهو نهي بلفظ الخبر «ذلك» أي النهي عن التخلف «بأنهم» بسبب أنهم «لا يصيبهم ظمأ» عطش «ولا نصب» تعب «ولا مخمصة» جوع «في سبيل الله ولا يطؤون موطئا» مصدر بمعنى وطأ «يغيظ» يغضب «الكفار ولا ينالون من عدو» لله «نيلا» قتلا أو أسرا أو نهبا «إلا كتب لهم به عمل صالح» ليجازوا عليه «إن الله لا يضيع أجر المحسنين» أي أجرهم بل يثيبهم.
﴿ تفسير السعدي ﴾
يقول تعالى حاثا لأهل المدينة المنورة من المهاجرين، والأنصار، ومن حولهم من الأعراب، الذين أسلموا فحسن إسلامهم : مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أي: ما ينبغي لهم ذلك، ولا يليق بأحوالهم.وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ في بقائها وراحتها، وسكونه عَنْ نَفْسِهِ الكريمة الزكية، بل النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فعلى كل مسلم أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ، بنفسه ويقدمه عليها، فعلامة تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته والإيمان التام به، أن لا يتخلفوا عنه، ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أي: المجاهدين في سبيل اللّه لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ أي: تعب ومشقة وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: مجاعة.وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّار من الخوض لديارهم، والاستيلاء على أوطانهم، وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا كالظفر بجيش أو سرية أو الغنيمة لمال إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ لأن هذه آثار ناشئة عن أعمالهم.إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله، وقيامهم بما عليهم من حقه وحق خلقه، فهذه الأعمال آثار من آثار عملهم.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( ما كان لأهل المدينة ) ظاهره خبر ، ومعناه نهي ، كقوله تعالى : " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله " ( الأحزاب - 53 ( ومن حولهم من الأعراب ) سكان البوادي : مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار . ( أن يتخلفوا عن رسول الله ) إذا غزا . ( ولا يرغبوا ) أي : ولا أن يرغبوا ، ( بأنفسهم عن نفسه ) في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه . قال الحسن : لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب . ( ذلك بأنهم لا يصيبهم ) في سفرهم ، ( ظمأ ) عطش ، ( ولا نصب ) تعب ، ( ولا مخمصة ) مجاعة ، ( في سبيل الله ولا يطئون موطئا ) أرضا ، ( يغيظ الكفار ) وطؤهم إياه ( ولا ينالون من عدو نيلا ) أي : لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة ، ( إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا يزيد بن أبي مريم ، حدثنا عباية بن رفاعة قال : أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار " .واختلفوا في حكم هذه الآية ، قال قتادة : هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر ، فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المسلمين أن يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة .وقال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي ، وابن المبارك ، وابن جابر ، وعمر بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية : إنها لأول هذه الأمة وآخرها .وقال ابن زيد : هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله تعالى وأباح التخلف لمن يشاء ، فقال : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة ) .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم أوجب- سبحانه- على المؤمنين مصاحبة رسولهم صلى الله عليه وسلم في غزواته فقال:ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ....والمراد بالنفي هنا النهى. أى: ليس لأهل المدينة أو لغيرهم من الأعراب سكان البادية الذين يسكنون في ضواحي المدينة، كقبائل مزينة وجهينة وأشجع وغفار.ليس لهؤلاء جميعا أن يتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ما خرج للجهاد، كما فعل بعضهم في غزوة تبوك، لأن هذا التخلف يتنافى مع الإيمان بالله ورسوله.وليس لهم كذلك «أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه» أى ليس لهم أن يؤثروا أنفسهم بالراحة على نفسه، بأن يتركوه يتعرض للآلام والأخطار. دون أن يشاركوه في ذلك، بل من الواجب عليهم أن يكونوا من حوله في البأساء والضراء، والعسر واليسر والمنشط والمكره.ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه، علما بأنها أعز نفس على الله وأكرمها، فإذا تعرضت- مع كرامتها وعزتها- للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت- أى تتساقط- فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيمون لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا عن أن يربئوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وهذا نهى بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية» .واسم الإشارة في قوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. يعود على ما دل عليه الكلام من وجوب مصاحبته وعدم التخلف عنه.أى: ذلك الذي كلفناهم به من وجوب مصاحبته صلى الله عليه وسلم والنهى عن التخلف عنه، سببه أنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أى عطش وَلا نَصَبٌ أى: تعب ومشقة وَلا مَخْمَصَةٌ أى: مجاعة شديدة تجعل البطون خامصة ضامرة فِي سَبِيلِ اللَّهِ أى: في جهاد أعدائه وإعلاء كلمة الحق وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أى: ولا يدوسون مكانا من أمكنة الكفار بأرجلهم أو بحوافر خيولهم من أجل إغاظتهم وإزعاجهم.. وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أى: ولا يصيبون من عدو من أعدائهم إصابة كقتل أو أسر أو غنيمة.إنهم لا يفعلون شيئا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أى: إلا كتب لهم بكل واحد مما ذكر عمل صالح، ينالون بسببه الثواب الجزيل من الله، لأنه- سبحانه- لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وإنما يكافئهم على إحسانهم بالأجر العظيم.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يعاتب تعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب ، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة ، فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر ؛ لأنهم ( لا يصيبهم ظمأ ) وهو : العطش ( ولا نصب ) وهو : التعب ( ولا مخمصة ) وهي : المجاعة ( ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ) أي : ينزلون منزلا يرهب عدوهم ( ولا ينالون ) منه ظفرا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرتهم ، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم ، أعمالا صالحة وثوابا جزيلا ( إن الله لا يضيع أجر المحسنين ) كما قال تعالى : ( إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) [ الكهف : 30 ] .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنينفيه خمس مسائل :الأولى : قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ظاهره خبر ومعناه أمر ; كقوله : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله وقد تقدم . أن يتخلفوا في موضع رفع اسم كان . وهذه معاتبة للمؤمنين من أهل يثرب وقبائل العرب المجاورة لها ; كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم على التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك . والمعنى : ما كان لهؤلاء المذكورين أن يتخلفوا ; فإن النفير كان فيهم ، بخلاف غيرهم فإنهم لم يستنفروا ; في قول بعضهم . ويحتمل أن يكون الاستنفار في كل مسلم ، وخص هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم ، وأنهم أحق بذلك من غيرهم .الثانية : قوله تعالى ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أي لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المشقة . يقال : رغبت عن كذا أي ترفعت عنه .الثالثة : قوله تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ أي عطش . وقرأ عبيد بن عمير ظماء بالمد . وهما لغتان مثل خطأ وخطاء . ( ولا نصب ) عطف ، أي تعب ، و " لا " زائدة للتوكيد . وكذا ( ولا مخمصة ) أي مجاعة . وأصله ضمور البطن ; ومنه رجل خميص و امرأة خمصانة . وقد تقدم . في سبيل الله أي في طاعته . ولا يطئون موطئا أي أرضا . يغيظ الكفار أي بوطئهم إياها ، وهو في موضع نصب لأنه نعت للموطئ ، أي غائظا . ولا ينالون من عدو نيلا أي قتلا وهزيمة . وأصله من نلت الشيء أنال أي أصبت . قال الكسائي : هو من قولهم أمر منيل منه ; وليس هو من التناول ، إنما التناول من نلته العطية . قال غيره : نلت أنول من العطية ، من الواو والنيل من الياء ، تقول : نلته فأنا نائل ، أي أدركته . ولا يقطعون واديا العرب تقول : واد وأودية ، على غير قياس . قال النحاس : ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة سواه ، والقياس أن يجمع ووادي ; فاستثقلوا الجمع بين واوين وهم قد يستثقلون واحدة ، حتى قالوا : أقتت في وقتت . وحكى الخليل وسيبويه في تصغير واصل اسم رجل أويصل فلا يقولون غيره . وحكى الفراء في جمع واد أوداء .قلت : وقد جمع أوداه ; قال جرير :عرفت ببرقة الأوداه رسما محيلا طال عهدك من رسومإلا كتب لهم به عمل صالح قال ابن عباس : بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة . وفي الصحيح : الخيل ثلاثة . . . وفيه : وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج أو روضة فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات . . . . الحديث . هذا وهي في مواضعها فكيف إذا أدرب بها .الرابعة : استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن الغنيمة تستحق بالإدراب والكون في بلاد العدو ، فإن مات بعد ذلك فله سهمه ; وهو قول أشهب وعبد الملك ، وأحد قولي الشافعي . وقال مالك وابن القاسم : لا شيء له ; لأن الله عز وجل إنما ذكر في هذه الآية الأجر ولم يذكر السهم .قلت : الأول أصح لأن الله تعالى : جعل وطء ديار الكفار بمثابة النيل من أموالهم وإخراجهم من ديارهم ، وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم ، فهو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر ; وإذا كان كذلك فالغنيمة تستحق بالإدراب لا بالحيازة ، ولذلك قال علي رضي الله عنه : ما وطئ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا . والله أعلم .الخامسة : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة وأن حكمها كان حين كان المسلمون في قلة ، فلما كثروا نسخت وأباح الله التخلف لمن شاء ; قاله ابن زيد . وقال مجاهد : بعث صلى الله عليه وسلم قوما إلى البوادي ليعلموا الناس فلما نزلت هذه الآية خافوا ورجعوا ; فأنزل الله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة . وقال قتادة : كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر ; فأما غيره من الأئمة الولاة فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة . وقول ثالث : أنها محكمة ; قال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي وابن المبارك والفزاري والسبيعي وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية إنها لأول هذه الأمة وآخرها . قلت : قول قتادة حسن ; بدليل غزاة تبوك ، والله أعلم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله : مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لم يكن لأهل المدينة, مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم =(ومن حولهم من الأعراب)، سُكّان البوادي, الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك, وهم من أهل الإيمان به، أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارٍ لهم, (59) ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه، ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك. (60) يقول: إنه لم يكن لهم هذا =(بأنهم)، من أجل أنهم، وبسبب أنهم =(لا يصيبهم)، في سفرهم إذا كانوا معه =(ظمأ)، وهو العطش =(ولا نصب), يقول: ولا تعب =(ولا مخمصة في سبيل الله) ، يعني: ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته, وهدْم مَنَار الكفر (61) =(ولا يطئون موطئًا) ، يعني: أرضًا, يقول: ولا يطأون أرضًا = (يغيظ الكفار)، وطؤهم إياها (62) =(ولا ينالون من عدوّ نيلا) ، يقول: ولا يصيبون من عدوّ الله وعَدُوّهم شيئًا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم = إلا كتب الله لهم بذلك كله، ثوابَ عمل صالح قد ارتضاه (63) =(إن الله لا يضيع أجر المحسنين) ، يقول: إن الله لا يدع محسنًا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره، وانتهى عما نهاه عنه, أن يجازيه على إحسانه، ويثيبه على صالح عمله. (64) فلذلك كتبَ لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ما ذكر في هذه الآية، الثوابَ على كلّ ما فعل، فلم يضيِّع له أجرَ فعله ذلك.* * *وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية.* * *فقال بعضهم: هي محكمة, وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة, لم يكن لأحدٍ أن يتخلف إذا غزا خِلافَه فيقعد عنه، إلا من كان ذا عُذْرٍ. فأما غيره من الأئمة والولاة، فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلَّف خلافه، إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة.* ذكر من قال ذلك:17462- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) ، هذا إذا غزا نبيُّ الله بنفسه, فليس لأحد أن يتخلف. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن أشقَّ على أمتي ما تخلَّفت خلف سريّة تغزو في سبيل الله, لكني لا أجد سَعةً، فأنطلق بهم معي, ويشقّ علي = أو: أكره = أن أدعهم بعدي.17463- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، سمعت الأوزاعي, وعبد الله بن المبارك, والفزاري, والسبيعي, وابن جابر, وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، إلى آخر الآية، إنها لأوّل هذه الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله.* * *وقال آخرون هذه الآية: نزلت وفي أهل الإسلام قلة, فلما كثروا نسخها الله، وأباح التخلف لمن شاء, فقال: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [سورة التوبة: 122]* ذكر من قال ذلك:17464- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، فقرأ حتى بلغ: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، قال: هذا حين كان الإسلام قليلا فلما كثر الإسلام بعدُ قال: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ، إلى آخر الآية.* * *قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي, أن الله عنى بها الذين وصفهم بقوله: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ، [سورة التوبة: 90] . ثم قال جل ثناؤه: (ما كان لأهل المدينة)، الذين تخلفوا عن رسول الله، ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه، أن يتخلفوا خِلافَه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب في غزوته تلك كلَّ من أطاق النهوض معه إلى الشخوص، إلا من أذن له، أو أمره بالمقام بعده. فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلُّف. فعدّد جل ثناؤه من تخلف منهم, فأظهر نفاقَ من كان تخلُّفه منهم نفاقًا، وعذر من كان تخلفه لعُذْرٍ, وتاب على من كان تخلُّفه تفريطًا من غير شك ولا ارتياب في أمر الله، إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل. فأما التخلف عنه في حال استغنائه، فلم يكن محظورًا، إذا لم يكن عن كراهةٍ منه صلى الله عليه وسلم ذلك. وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم. فليس بفرضٍ على جميعهم النهوضُ معه، إلا في حال حاجته إليهم، لما لا بُدَّ للإسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم، فيلزمهم حينئذ طاعته.وإذا كان ذلك معنى الآية، لم تكن إحدى الآيتين اللتين ذكرنا ناسخةً للأخرى, إذ لم تكن إحداهما نافيةً حكم الأخرى من كل وجوهه, ولا جاء خبر يوجِّه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى.* * *وقد بينا معنى " المخمصة "، وأنها المجاعة بشواهده, وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضعٍ غير هذا, فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (65)* * *وأما " النيل "، فهو مصدر من قول القائل: " نالني ينالني", و " نلت الشيء فهو مَنيل ". وذلك إذا كنت تناله بيدك، وليس من " التناول ". وذلك أن " التناول " من " النوال ", يقال منه: " نُلْتُ له، أنول له "، من العطيّة.وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: " النيل " مصدر من قول القائل: " نالني بخير ينولني نوالا "، و " أنالني خيرًا إنالةً". وقال: كأن " النيل " من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو. وليس ذلك بمعروف في كلام العرب, بل من شأن العرب أن تصحِّح الواو من ذوات الواو، إذا سكنت وانفتح ما قبلها, كقولهم: " القَوْل ", و " العَوْل ", و " الحول ", ولو جاز ما قال، لجاز " القَيْل ". (66)----------------------الهوامش :(59) في المطبوعة : " ولا دارهم " ، وأثبت ما في المخطوطة .(60) انظر تفسير " رغب " فيما سلف 3 : 89 .(61) انظر تفسير " المخمصة " فيما سيأتي ص : 564 ، تعليق : 1 .= وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة ( سبل ) .(62) انظر تفسير " الغيظ " فيما سلف 7 : 215 / 114 : 16 .(63) انظر تفسير " كتب " فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) .(64) انظر تفسير " المحسن " فيما سلف من فهارس اللغة ( حسن ) .(65) انظر تفسير " المخمصة " فيما سلف 9 : 532 - 534 .(66) انظر تفسير " النيل " فيما سلف 3 : 20 / 6 : 587 / 12 : 408 ، 469 / 13 : 133 ولم يفسر " النيل " فيما سلف بمثل هذا البيان في هذا الموضع . وهذه ملاحظة نافعة في استخراج المنهج الذي ألف به أبو جعفر تفسيره هذا .
﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾