أفلم يدل قومك - أيها الرسول - على طريق الرشاد كثرة مَن أهلكنا من الأمم المكذبة قبلهم وهم يمشون في ديارهم، ويرون آثار هلاكهم؟ إن في كثرة تلك الأمم وآثار عذابهم لَعبرًا وعظاتٍ لأهل العقول الواعية.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«أفلم يهد» يتبين «لهم» لكفار مكة «كم» خبرية مفعول «أهلكنا» أي كثيرا إهلاكنا «قبلهم من القرون» أي الأمم الماضية بتكذيب الرسل «يمشون» حال من ضمير لهم «في مساكنهم» في سفرهم إلى الشام وغيرها فيعتبروا، وما ذكر من أخذ إهلاك من فعله الخالي عن حرف مصدري لرعاية المعنى لا مانع منه «إنَّ في ذلك لآيات» لعبراً «لأولي النهى» لذوي العقول.
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: أفلم يهد هؤلاء المكذبين المعرضين، ويدلهم على سلوك طريق الرشاد، وتجنب طريق الغي والفساد، ما أحل الله بالمكذبين قبلهم، من القرون الخالية، والأمم المتتابعة، الذين يعرفون قصصهم، ويتناقلون أسمارهم، وينظرون بأعينهم، مساكنهم من بعدهم، كقوم هود وصالح ولوط وغيرهم، وأنهم لما كذبوا رسلنا، وأعرضوا عن كتبنا، أصبناهم بالعذاب الأليم؟فما الذي يؤمن هؤلاء، أن يحل بهم، ما حل بأولئك؟ أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر* أم يقولون نحن جميع منتصر لا شيء من هذا كله، فليس هؤلاء الكفار، خيرا من أولئك، حتى يدفع عنهم العذاب بخيرهم، بل هم شر منهم، لأنهم كفروا بأشرف الرسل وخير الكتب، وليس لهم براءة مزبورة وعهد عند الله، وليسوا كما يقولون أن جمعهم ينفعهم ويدفع عنهم، بل هم أذل وأحقر من ذلك، فإهلاك القرون الماضية بذنوبهم، من أسباب الهداية، لكونها من الآيات الدالة على صحة رسالة الرسل الذين جاءوهم، وبطلان ما هم عليه، ولكن ما كل أحد ينتفع بالآيات، إنما ينتفع بها أولو النهى، أي: العقول السليمة، والفطر المستقيمة، والألباب التي تزجر أصحابها عما لا ينبغي.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( أفلم يهد لهم ) يبين لهم القرآن ، يعني : كفار مكة ، ( كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ) ديارهم ومنازلهم إذا سافروا . والخطاب لقريش كانوا يسافرون إلى الشام فيرون ديار المهلكين من أصحاب الحجر وثمود وقريات لوط .( إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) لذوي العقول .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم وبخ- سبحانه- أولئك الذين لم ينتفعوا بآياته فقال: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ ...والهمزة للاستفهام الإنكارى التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر..والمعنى: أبلغت الغفلة والجهالة بهؤلاء المشركين، أنهم لم يتبين لهم، أننا أهلكنا كثيرا من أهل القرون الماضية، الذين كانوا يمشون آمنين لاهين في مساكنهم ...وكان أهلا كنا لهم بسبب إيثارهم الكفر على الإيمان، والغي على الرشد، والعمى على الهدى ...فالآية الكريمة تقريع وتوبيخ لكفار مكة الذين لم يعتبروا بما أصاب أمثالهم من الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وثمود ...قال الآلوسى: وقوله: يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حال من الْقُرُونِ أو من مفعول أَهْلَكْنا أى: أهلكناهم وهم في حال آمن وتقلب في ديارهم. واختار بعضهم كونه حالا من الضمير في لَهُمْ مؤكدا للإنكار والعامل فيه يَهْدِ. أى: أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين في مساكن من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر، وثمود، وقوم لوط، مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى بلاد الشام وغيرها.. .وقوله- سبحانه-: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى تذييل قصد به تعليل الإنكار، أى: إن في ذلك الذي أخبرناهم به، وأطلعناهم عليه من إهلاك المكذبين السابقين، لَآياتٍ عظيمة، وعبر كثيرة، ودلائل واضحة لأصحاب العقول السليمة، التي تنهى أصحابها عن القبائح والآثام.والنهى: جمع نهية- بضم النون وإسكان الهاء- سمى العقل بها لنهيه عن القبائح.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
قول تعالى : ( أفلم يهد ) لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به : يا محمد ، كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم ، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر ، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها ، يمشون فيها ، ( إن في ذلك لآيات لأولي النهى ) أي : العقول الصحيحة والألباب المستقيمة ، كما قال تعالى : ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) [ الحج : 46 ] ، وقال في سورة " الم السجدة " : ( أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ) [ السجدة : 26 ] .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : أفلم يهد لهم يريد أهل مكة ؛ أي أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة ، فيرون بلاد الأمم الماضية ، والقرون الخالية خاوية ؛ أي أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم . وقرأ ابن عباس والسلمي وغيرهما ( نهد لهم ) بالنون وهي أبين . ويهد بالياء مشكل لأجل الفاعل ؛ فقال الكوفيون ( كم ) الفاعل ؛ النحاس : وهذا خطأ لأن ( كم ) استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها . وقال الزجاج المعنى أولم يهد لهم الأمر بإهلاكنا من أهلكنا . وحقيقة يهد على الهدى ؛ فالفاعل هو الهدى تقديره أفلم يهد الهدى لهم . قال الزجاج : كم في موضع نصب ب أهلكنا .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى (128)يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أفلم يهد لقومك المشركين بالله، ومعنى يهد: يبين. يقول: أفلم يبين لهم كثرة ما أهلكنا قبلهم من الأمم التي سلكت قبلها التي يمشون في مساكنهم ودورهم، ويرون آثار عقوباتنا التي أحللناها بهم سوء مغبة ما هم عليه مقيمون من الكفر بآياتنا، ويتعظوا بهم، ويعتبروا، وينيبوا إلى الإذعان، ويؤمنوا بالله ورسوله، خوفا أن يصيبهم بكفرهم بالله مثل ما أصابهم.وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) لأن قريشا كانت تتجر إلى الشأم، فتمر بمساكن عاد وثمود ومن أشبههم، فترى آثار وقائع الله تعالى بهم، فلذلك قال لهم: أفلم يحذّرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نزول مثله لهم، وهم على مثل فعلهم مقيمون ، وكان الفرّاء يقول: لا يجوز في كم في هذا الموضع أن يكون إلا نصبا بأهلكنا، وكان يقول: وهو وإن لم يكن إلا نصبا، فإن جملة الكلام رفع بقوله ( يَهْدِ لَهُمْ ) ويقول: ذلك مثل قول القائل: قد تبين لي أقام عمرو أم زيد في الاستفهام، وكقوله سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ويزعم أن فيه شيئا يرفع سواء لا يظهر مع الاستفهام، قال: ولو قلت: سواء عليكم صمتكم ودعاؤكم تبين ذلك الرفع الذي في الجملة، وليس الذي قال الفرّاء من ذلك، كما قال: لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لم تجعل في هذا الموضع للاستفهام، بل هي واقعة موقع الأسماء الموصوفة، ومعنى الكلام ما قد ذكرنا قبل وهو: أفلم يبين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التي يمشون في مساكنهم، أو أفلم تهدهم القرون الهالكة، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مَنْ أهْلَكْنا) فكم واقعة موقع من في قراءة عبد الله، هي في موضع رفع بقوله ( يَهْدِ لَهُمْ ) وهو أظهر وجوهه، وأصحّ معانيه، وإن كان الذي قاله وجه ومذهب على بعد.وقوله ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) يقول تعالى ذكره: إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذّبة رسلها قبلهم، وحلول مثلاتنا بهم لكفرهم بالله (لآيات) يقول: لدلالات وعبرا وعظات (لأولي النهى) يعني: لأهل الحجى والعقول، ومن ينهاه عقله وفهمه ودينه عن مواقعة ما يضره.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( لأولِي النُّهَى ) يقول: التقى.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) أهل الورع.
﴿ أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات لأولي النهى ﴾