وكما أنمناهم سنين كثيرة، وأيقظناهم بعدها، أطْلَعنا عليهم أهل ذلك الزمان، بعد أن كشف البائع نوع الدراهم التي جاء بها مبعوثهم؛ ليعلم الناس أنَّ وَعْدَ الله بالبعث حق، وأن القيامة آتية لا شك فيها، إذ يتنازع المطَّلِعون على أصحاب الكهف في أمر القيامة: فمِن مُثْبِتٍ لها ومِن مُنْكِر، فجعل الله إطْلاعهم على أصحاب الكهف حجة للمؤمنين على الكافرين. وبعد أن انكشف أمرهم، وماتوا قال فريق من المطَّلِعين عليهم: ابنوا على باب الكهف بناءً يحجبهم، واتركوهم وشأنهم، ربهم أعلم بحالهم، وقال أصحاب الكلمة والنفوذ فيهم: لنتخذنَّ على مكانهم مسجدًا للعبادة. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ولعن مَن فَعَلَ ذلك في آخر وصاياه لأمته، كما أنه نهى عن البناء على القبور مطلقًا، وعن تجصيصها والكتابة عليها؛ لأن ذلك من الغلو الذي قد يؤدي إلى عبادة مَن فيها.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وكذلك» كما بعثناهم «أعثرنا» أطلعنا «عليهم» قومهم والمؤمنين «ليعلموا» أي قومهم «أن وعد الله» بالبعث «حق» بطريق أن القادر على إنامتهم المدة الطويلة وإبقائهم على حالهم بلا غذاء قادر على إحياء الموتى «وأن الساعة لا ريب» لا شك «فيها إذ» معمول لأعثرنا «يتنازعون» أي المؤمنون والكفار «بينهم أمرهم» أمر الفتية في البناء حولهم «فقالوا» أي الكفار «ابنوا عليهم» أي حولهم «بنيانا» يسترهم. «ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم» أمر الفتية وهم المؤمنون «لنتخذن عليهم» حولهم «مسجدا» يصلى فيه، وفعل ذلك على باب الكهف.
﴿ تفسير السعدي ﴾
يخبر الله تعالى، أنه أطلع الناس على حال أهل الكهف، وذلك -والله أعلم- بعدما استيقظوا، وبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، وأمروه بالاستخفاء والإخفاء، فأراد الله أمرا فيه صلاح للناس، وزيادة أجر لهم، وهو أن الناس رأوا منهم آية من آيات الله، المشاهدة بالعيان، على أن وعد الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا بعد، بعدما كانوا يتنازعون بينهم أمرهم، فمن مثبت للوعد والجزاء، ومن ناف لذلك، فجعل قصتهم زيادة بصيرة ويقين للمؤمنين، وحجة على الجاحدين، وصار لهم أجر هذه القضية، وشهر الله أمرهم، ورفع قدرهم حتى عظمهم الذين اطلعوا عليهم.و فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا الله أعلم بحالهم ومآلهم، وقال من غلب على أمرهم، وهم الذين لهم الأمر: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا أي: نعبد الله تعالى فيه، ونتذكر به أحوالهم، وما جرى لهم، وهذه الحالة محظورة، نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وذم فاعليها، ولا يدل ذكرها هنا على عدم ذمها، فإن السياق في شأن تعظيم أهل الكهف والثناء عليهم، وأن هؤلاء وصلت بهم الحال إلى أن قالوا: ابنوا عليهم مسجدا، بعد خوف أهل الكهف الشديد من قومهم، وحذرهم من الاطلاع عليهم، فوصلت الحال إلى ما ترى.وفي هذه القصة، دليل على أن من فر بدينه من الفتن، سلمه الله منها. وأن من حرص على العافية عافاه الله ومن أوى إلى الله، آواه الله، وجعله هداية لغيره، ومن تحمل الذل في سبيله وابتغاء مرضاته، كان آخر أمره وعاقبته العز العظيم من حيث لا يحتسب وما عند الله خير للأبرار
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( وكذلك أعثرنا ) أي : أطلعنا ( عليهم ) يقال : عثرت على الشيء : إذا اطلعت عليه وأعثرت غيري أي : أطلعته ( ليعلموا أن وعد الله حق ) يعني قوم بيدروس الذين أنكروا البعث ( وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم ) قال ابن عباس : يتنازعون في البنيان فقال المسلمون : نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا وقال المشركون : نبني عليهم بنيانا لأنهم من أهل نسبنا .وقال عكرمة : تنازعوا في البعث ، فقال المسلمون : البعث للأجساد والأرواح معا ، وقال قوم : للأرواح دون الأجساد فبعثهم الله تعالى وأراهم أن البعث للأجساد والأرواح .وقيل : تنازعوا في مدة لبثهم . وقيل : في عددهم .( ( فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم ) بيدروس الملك وأصحابه ( لنتخذن عليهم مسجدا )
﴿ تفسير الوسيط ﴾
فقوله- سبحانه-: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها بيان للحكمة التي من أجلها أطلع الله- تعالى- الناس على هؤلاء الفتية.قال الآلوسى ما ملخصه: وأصل العثور السقوط للوجه، يقال: عثر عثورا وعثارا إذا سقط لوجهه، ومنه قولهم في المثل: الجواد لا يكاد يعثر. ثم تجوز به في الاطلاع على أمر من غير طلبه.وقال بعضهم: لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثرته، ورد العثور بمعنى الاطلاع والعرفان، فهو في ذلك مجاز مشهور بعلاقة السببية.ومفعول «أعثرنا» محذوف لقصد العموم، أى: وكذلك أطلعنا الناس عليهم،.والمعنى: وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة، وبعثناهم هذا البعث الخاص، أطلعنا الناس عليهم ليعلم هؤلاء الناس عن طريق المعاينة والمشاهدة، أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ وصدق وليعلموا كذلك أن الساعة، أى القيامة، آتية لا ريب فيها، ولا شك في حصولها، فإن من شاهد أهل الكهف، وعرف أحوالهم، أيقن بأن من كان قادرا على إنامتهم تلك المدة الطويلة ثم على بعثهم بعد ذلك. فهو قادر على إعادة الحياة إلى الموتى، وعلى بعث الناس يوم القيامة للحساب والجزاء.وقد ذكروا في كيفية إطلاع الناس عليهم روايات ملخصها: أن زميلهم الذي أرسلوه بالدراهم إلى السوق ليشتري لهم طعاما عند ما وصل إلى سوق المدينة، عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من نقود لكي يأخذ في مقابلها طعاما، فلما رأى البائع النقود أنكرها- لأنها مصنوعة منذ زمن بعيد- وأخذ يطلع عليها بقية التجار، فقالوا له: أين وجدت هذه الدراهم؟ فقال لهم: بعت بها أمس شيئا من التمر، وأنا من أهل هذه المدينة، وقد خرجت أنا وزملائى إلى الكهف خوفا من إيذاء المشركين لنا، فأخذوه إلى ملكهم وقصوا عليه قصته. فسر الملك به، وذهب معه إلى الكهف ليرى بقية زملائه فلما رآهم سلم عليهم..ثم أماتهم الله- تعالى-» .ثم بين- سبحانه- ما كان من أمرهم بعد وفاتهم واختلاف الناس في شأنهم، فقال:إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ، فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ.والظرف «إذ» متعلق بمحذوف تقديره: اذكر، و «يتنازعون» من التنازع بمعنى التخاصم والاختلاف، والضمير في «أمرهم» يعود إلى الفتية.والمعنى: لقد قصصنا عليك- أيها الرسول الكريم- قصة هؤلاء الفتية. وبينا لك أحوالهم عند رقادهم، وبعد بعثهم من نومهم، وبعد الإعثار عليهم، وكيف أن الذين عثروا عليهم صاروا يتنازعون في شأنهم. فمنهم من يقول إنهم وجدوا في زمن كذا، ومنهم من يقول إنهم مكثوا في كهفهم كذا سنة، ومنهم من يقول نبنى حولهم بنيانا صفته كذا.ويجوز أن يكون الضمير في «أمرهم» يعود إلى الذين أطلعهم الله على الفتية، فيكون المعنى: اذكر وقت تنازع هؤلاء الذين عثروا على الفتية وتخاصمهم فيما بينهم، حيث إن بعضهم كان مؤمنا. وبعضهم كان كافرا، وبعضهم كان يؤمن يبعث الأرواح والأجساد، وبعضهم كان يؤمن ببعث الأجساد فقط.وقوله- تعالى-: فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً تفسير للمتنازع فيه، وبيان لما قاله بعض الذين اطلعوا على أمر الفتية.أى اختلف الذين عثروا على الفتية فقال بعضهم: ابنوا على باب كهفهم بنيانا. حتى لا يصل الناس إليهم، وحتى نصونهم من الأذى.وقوله- تعالى-: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ يحتمل أنه حكاية لكلام طائفة من المتنازعين في شأن أصحاب الكهف، وقد قالوه ليقطعوا النزاع في شأنهم، وليفوضوا أمرهم إلى الله- تعالى-.ويحتمل أن يكون من كلام الله- تعالى- ردا للخائضين في شأنهم.أى: اتركوا أيها المتنازعون ما أنتم فيه من تنازع، فإنى أعلم منكم بحال أصحاب الكهف.ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً.أى: أن الذين أعثرهم الله على أصحاب الكهف قال بعضهم: ابنوا على هؤلاء الفتية بنيانا يسترهم.. وقال الذين غلبوا على أمرهم، وهم أصحاب الكلمة النافذة، والرأى المطاع، لنتخذن على هؤلاء الفتية مسجدا، أى: معبدا تبركا بهم.قال الآلوسى: واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء، واتخاذ مسجد عليها، وجواز الصلاة في ذلك وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي. وهو قول باطل عاطل، فاسد كاسد. فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» .وزاد مسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك» .وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد..».ثم حكت السورة بعد ذلك ما أثير من جدل حول عدد أصحاب الكهف وأمرت النبي صلّى الله عليه وسلم أن يكل ذلك إلى الله- تعالى- وحده، فقال- سبحانه-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى : ( وكذلك أعثرنا عليهم ) أي : أطلعنا عليهم الناس ( ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها )ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة . وقال عكرمة : كان منهم طائفة قد قالوا : تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد . فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك .وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة ، في شراء شيء لهم ليأكلوه ، تنكر وخرج يمشي في غير الجادة ، حتى انتهى إلى المدينة ، وذكروا أن اسمها دقسوس وهو يظن أنه قريب العهد بها ، وكان الناس قد تبدلوا قرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وأمة بعد أمة ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، كما قال الشاعر :أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجالهفجعل لا يرى شيئا من معالم البلد التي يعرفها ، ولا يعرف أحدا من أهلها ، لا خواصها ولا عوامها ، فجعل يتحير في نفسه ويقول : لعل بي جنونا أو مسا ، أو أنا حالم ، ويقول : والله ما بي شيء من ذلك ، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة . ثم قال : إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي . ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام ، فدفع إليه ما معه من النفقة ، وسأله أن يبيعه بها طعاما . فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها ، فدفعها إلى جاره ، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون : لعل هذا قد وجد كنزا . فسألوه عن أمره ، ومن أين له هذه النفقة ؟ لعله وجدها من كنز . ومن أنت ؟ فجعل يقول : أنا من أهل هذه المدينة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس . فنسبوه إلى الجنون ، فحملوه إلى ولي أمرهم ، فسأله عن شأنه وعن أمره حتى أخبرهم بأمره ، وهو متحير في حاله ، وما هو فيه . فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف متولي البلد وأهلها ، حتى انتهى بهم إلى الكهف ، فقال : دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي ، فيقال : إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه ، وأخفى الله عليهم خبره ويقال : بل دخلوا عليهم ، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم ، وكان مسلما فيما قيل ، واسمه تيدوسيس ففرحوا به وآنسوه بالكلام ، ثم ودعوه وسلموا عليه ، وعادوا إلى مضاجعهم ، وتوفاهم الله - عز وجل - فالله أعلم .قال قتادة : غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة ، فمروا بكهف في بلاد الروم ، فرأوا فيه عظاما ، فقال قائل : هذه عظام أهل الكهف ؟ فقال ابن عباس : لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة . رواه ابن جرير .وقوله : ( وكذلك أعثرنا عليهم ) أي : كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم ، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان ( ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم ) أي : في أمر القيامة ، فمن مثبت لها ومن منكر ، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم ( فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم ) أي : سدوا عليهم باب كهفهم ، وذروهم على حالهم ( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا )حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين : أحدهما : إنهم المسلمون منهم . والثاني : أهل الشرك منهم ، فالله أعلم .والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ . ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد " يحذر ما فعلوا . وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق ، أمر أن يخفى عن الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده ، فيها شيء من الملاحم وغيرها .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداقوله تعالى : وكذلك أعثرنا عليهم أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم . و " أعثر " تعدية عثر بالهمزة ، وأصل العثار في القدم .ليعلموا أن وعد الله حق يعني الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم . وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح ، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور ، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا : إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض . وقال بعضهم : تبعث الروح والجسد جميعا ; فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يتبين أمره لهم ، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله - تعالى - في حجة وبيان ، فأعثر الله على أهل الكهف ; فيقال : إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد ، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه ، فلما نظر إليه قال : لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك ، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم ، وسأل الفتى فأخبره ; فسر الملك بذلك وقال : لعل الله قد بعث لكم آية ، فلنسر إلى الكهف معه ، فركب مع أهل المدينة إليهم ، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليخا : أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الأمر وأن الأمة أمة إسلام ، فروي أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم . وأكثر الروايات على أنهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق ، على ما يأتي . ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين . فهذا معنى أعثرنا عليهم . ليعلموا أن وعد الله حق أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق إذ يتنازعون بينهم أمرهم . وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم .فقال الملك : ابنوا عليهم بنيانا ; فقال الذين هم على دين الفتية : اتخذوا عليهم مسجدا . وروي أن طائفة كافرة قالت : نبني بيعة أو مضيفا ، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا . وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين . وروي عن عبد الله بن عمر أن الله - تعالى - أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم ، فذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم . وقيل : إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال : أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل ; فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود ، فدعنا .وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة ; فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها ، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز ; لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج . قال الترمذي : وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن . وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله - تعالى - يوم القيامة . لفظ مسلم . قال علماؤنا : وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد . وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها لفظ مسلم . أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى ، فيؤدي إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام . فحذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل ذلك ، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال : اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . وروى الصحيحان عن عائشة وعبد الله بن عباس قالا : لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك : لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا . وروى مسلم عن جابر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه . وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وروى الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته - في رواية - ولا صورة إلا طمستها . وأخرجه أبو داود والترمذي . قال علماؤنا : ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة . وقد قال به بعض أهل العلم . وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم ، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم ، وذلك صفة قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وقبر صاحبيه - رضي الله عنهما - على ما ذكر مالك في الموطإ - وقبر أبينا آدم - صلى الله عليه وسلم - ، على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس . وأما تعلية البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال ; فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة ، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها . وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي أن ينبغي أن يقال : هو حرام . والتسنيم في القبر : ارتفاعه قدر شبر ; مأخوذ من سنام البعير . ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح . وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر . وقال أبو حنيفة : لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط . ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة ; لما رواه أبو بكر الأثرم قال : حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال : كانت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزور قبر حمزة بن عبد المطلب كل جمعة وعلمته بصخرة ; ذكره أبو عمر .وأما الجائزة : فالدفن في التابوت ; وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة . روي أن دانيال - صلوات الله عليه - كان في تابوت من حجر ، وأن يوسف - عليه السلام - أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية مخافة أن يعبد ، وبقي كذلك إلى زمان موسى - صلوات الله عليهم أجمعين - ; فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق - عليه السلام - . وفي الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه : اتخذوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا ; كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . اللحد : هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن . وهو أفضل عندنا من الشق ; لأنه الذي اختاره الله - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وبه قال أبو حنيفة قال : السنة اللحد . وقال الشافعي : الشق . ويكره الآجر في اللحد . وقال الشافعي : لا بأس به لأنه نوع من الحجر . وكرهه أبو حنيفة وأصحابه ; لأن الآجر لإحكام البناء ، والقبر وما فيه للبلى ، فلا يليق به الإحكام . وعلى هذا يسوى بين الحجر والآجر . وقيل : إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا ; فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر . قالوا : ويستحب اللبن والقصب لما روي أنه وضع على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حزمة من قصب . وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل الحنفي - رحمه الله - أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض . وقال : لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به ، لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلي الميت ، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد .قلت : ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; فإن المدينة سبخة ، قال شقران : أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر . قال أبو عيسى الترمذي : حديث شقران حديث حسن غريب .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)يقول تعالى ذكره: وكما بعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم ساعة رقدوا، ليتساءلوا بينهم، فيزدادوا بعظيم سلطان الله بصيرة، وبحسن دفاع الله عن أوليائه معرفة ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ) يقول: كذلك أطلعنا عليهم الفريق الآخر الذين كانوا في شكّ من قُدرة الله على إحياء الموتى، وفي مِرْية من إنشاء أجسام خلقه، كهيئتهم يوم قبضهم بعد البِلَى، فيعلموا أن وَعْد الله حق، ويُوقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها.وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ) يقول: أطلعنا عليهم ليعلم من كذب بهذا الحديث، أن وعد الله حقّ، وأن الساعة لا ريب فيها.وقوله: ( إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ )يعني: الذين أعثروا على الفتية يقول تعالى: وكذلك أعثرنا هؤلاء المختلفين في قيام الساعة، وإحياء الله الموتى بعد مماتهم من قوم تيذوسيس، حين يتنازعون بينهم أمرهم فيما الله فاعل بمن أفناه من عباده، فأبلاه في قبره بعد مماته، أمنشئهم هو أم غير منشئهم ، وقوله ( فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ) يقول: فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف: ابنوا عليهم بنيانا( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) يقول: ربّ الفتية أعلم بالفتية وشأنهم ، وقوله: ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ) يقول جلّ ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف ( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ).وقد اختلف في قائلي هذه المقالة، أهم الرهط المسلمون، أم هم الكفار؟ وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، وسنذكر إن شاء الله ما لم يمض منه.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) قال: يعني عدوّهم.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: عمَّى الله على الذين أعثرهم على أصحاب الكهف مكانهم، فلم يهتدوا، فقال المشركون: نبني عليهم بنيانا، فإنهم أبناء آبائنا، ونعبد الله فيها، وقال المسلمون: بل نحن أحق بهم، هم منا، نبني عليهم مسجدا نصلي فيه، ونعبد الله فيه.
﴿ وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ﴾