يا معشر الجن والإنس، إن قَدَرْتم على النفاذ من أمر الله وحكمه هاربين من أطراف السموات والأرض فافعلوا، ولستم قادرين على ذلك إلا بقوة وحجة، وأمر من الله تعالى (وأنَّى لكم ذلك وأنتم لا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا؟). فبأي نِعَم ربكما - أيها الثقلان- تكذِّبان؟
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا» تخرجوا «من أقطار» نواحي «السماوات والأرض فانفذوا» أمر تعجيز «لا تنفذون إلا بسلطان» بقوة ولا قوة لكم على ذلك.
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: إذا جمعهم الله في موقف القيامة، أخبرهم بعجزهم وضعفهم، وكمال سلطانه، ونفوذ مشيئته وقدرته، فقال معجزا لهم: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: تجدون منفذا مسلكا تخرجون به عن ملك الله وسلطانه، فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ أي: لا تخرجون عنه إلا بقوة وتسلط منكم، وكمال قدرة، وأنى لهم ذلك، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؟! ففي ذلك الموقف لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا تسمع إلا همسا، وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك، والرؤساء والمرءوسون، والأغنياء والفقراء.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا ) أي تجوزوا وتخرجوا ، ( من أقطار السماوات والأرض ) أي من جوانبهما وأطرافهما ( فانفذوا ) معناه إن استطعتم أن تهربوا من الموت بالخروج من أقطار السماوات والأرض : فاهربوا واخرجوا منها . [ والمعنى ] حيثما كنتم أدرككم الموت ، كما قال جل ذكره : " أينما تكونوا يدرككم الموت " ، ( النساء - 78 ) وقيل : يقال لهم هذا يوم القيامة إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا ( لا تنفذون إلا بسلطان ) أي : بملك ، وقيل بحجة ، والسلطان : القوة التي يتسلط بها على الأمر ، فالملك والقدرة والحجة كلها سلطان ، يريد حيثما توجهتم كنتم في ملكي وسلطاني . وروي عن ابن عباس قال : معناه : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله - عز وجل - . وقيل قوله : " إلا بسلطان " أي إلا إلى سلطان كقوله : " وقد أحسن بي " ( يوسف - 100 ) أي إلي .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقوله- سبحانه-: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ... مقول لقول محذوف، دل عليه ما قبله.والمعشر- برنة مفعل- اسم للجمع الكثير الذي يعد عشرة فعشرة.وقوله: تَنْفُذُوا من النفاذ بمعنى الخروج من الشيء، والأمر منه وهو قوله:فَانْفُذُوا مستعمل في التعجيز. والأقطار: جمع قطر- بضم القاف وسكون الطاء- وهو الناحية الواسعة..والمعنى: سنقصد إلى محاسبتكم ومجازاتكم على أعمالكم يوم القيامة، وسنقول لكم على سبيل التعجيز والتحدي. يا معشر الجن والإنس، إن استطعتم أن تنفذوا وتخرجوا من جوانب السموات والأرض ومن نواحيهما المتعددة.. فانفذوا واخرجوا، وخلصوا أنفسكم من المحاسبة والمجازاة..وجملة: لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ بيان للتعجيز المتمثل في قوله- تعالى- فَانْفُذُوا، والسلطان المراد به هنا: القدرة والقوة.أى: لا تنفذون من هذا الموقف العصيب الذي أنتم فيه إلا بقدرة عظيمة، وقوة خارقة، تزيد على قوة خالقكم الذي جعلكم في هذا الموقف، وأنى لكم هذه القوة التي أنتم أبعد ما تكونون عنها؟.فالمقصود بالآية الكريمة، تحذير الفاسقين والكافرين، من التمادي في فسقهم وكفرهم، وبيان أنهم سيكونون في قبضة الله- تعالى- وتحت سلطانه، وأنهم لن يستطيعوا الهروب من قبضته وقضائه فيهم بحكمه العادل.وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ. وَخَسَفَ الْقَمَرُ. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ .
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
ثم قال : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) أي : لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره ، بل هو محيط بكم ، لا تقدرون على التخلص من حكمه ، ولا النفوذ عن حكمه فيكم ، أينما ذهبتم أحيط بكم ، وهذا في مقام المحشر ، الملائكة محدقة بالخلائق ، سبع صفوف من كل جانب ، فلا يقدر أحد على الذهاب ( إلا بسلطان ) أي : إلا بأمر الله ، ( يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ) [ القيامة : 10 - 12 ] . وقال تعالى : ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) [ يونس : 27 ] ; ولهذا قال :
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : يا معشر الجن والإنس الآية . ذكر ابن المبارك : وأخبرنا جويبر عن الضحاك قال إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها ، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب ، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها ، ثم يأمر الله السماء التي تليها كذلك فينزلون فيكونون صفا من خلف ذلك الصف ، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة ، فينزل الملك الأعلى في بهائه وملكه ومجنبته اليسرى جهنم ، فيسمعون زفيرها وشهيقها ، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة ، فذلك قوله تعالى : يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان والسلطان العذر . وقال الضحاك أيضا : بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ، ونزلت الملائكة ، فتهرب الجن والإنس ، فتحدق بهم الملائكة ، فذلك قوله تعالى : لا تنفذون إلا بسلطان ذكره النحاس .قلت : فعلى هذا يكون في الدنيا ، وعلى ما ذكر ابن المبارك يكون في الآخرة . وعن الضحاك أيضا : إن استطعتم أن تهربوا من الموت فاهربوا . وقال ابن عباس : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات وما في الأرض فاعلموه ، ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة من الله تعالى . وعنه أيضا أن معنى : لا تنفذون إلا بسلطان لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم . قتادة : لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك . وقيل : لا تنفذون إلا إلى سلطان ، الباء بمعنى إلى ، كقوله تعالى : وقد أحسن بي أي إلي . قال الشاعر :أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة لدينا ولا مقلية إن تقلتوقوله : فانفذوا أمر تعجيز .
﴿ تفسير الطبري ﴾
وقوله: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا ): اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا )، فقال بعضهم: معنى ذلك : إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السموات والأرض، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم؛ فجوزوا ذلك، فإنكم لا تجوزونه إلا بسلطان من ربكم. قالوا : وإنما هذا قول يقال لهم يوم القيامة. قالوا: ومعنى الكلام: سنفرغ لكم أيها الثقلان، فيقال لهم ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا ).* ذكر من قال ذلك:حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ، قال: ثنا أبو أسامة، عن الأجلح، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم، قال: " إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشقَّقت بأهلها، ونزل من فيها من الملائكة، فأحاطوا بالأرض ومن عليها بالثانية، ثم بالثالثة، ثم بالرابعة، ثم بالخامسة، ثم بالسادسة، ثم بالسابعة، فصفوا صفا دون صف، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبِّته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض ندوّا، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه، فذلك قول الله إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ، وذلك قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ، وقوله: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ )، وذلك قوله: وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا .وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض، فانفذوا هاربين من الموت، فإن الموت مُدرككم، ولا ينفعكم هربكم منه.* ذكر من قال ذلك:حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ ) .... الآية، يعني بذلك أنه لا يجيرهم أحد من الموت، وأنهم ميتون لا يستطيعون فرارا منه، ولا محيصا، لو نفذوا أقطار السموات والأرض كانوا في سُلطان الله، ولأخذهم الله بالموت.وقال آخرون : بل معنى ذلك: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموا.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ) يقول: إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات والأرض فاعلموه، لن تعلموه إلا بسلطان، يعني البينة من الله جلّ ثناؤه.وقال آخرون : معنى قوله: ( لا تَنْفُذُونَ ): لا تخرجون من سلطاني.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ): يقول: لا تخرجون من سلطاني .وأما الأقطار فهي جمع قُطْر، وهي: الأطراف.كماحدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان ( إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) قال: من أطرافها.وقوله جلّ ثناؤه وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا يقول: من أطرافها.وأما قوله: ( إلا بسُلْطانٍ )، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم معناه : إلا ببينة وقد ذكرنا ذلك قبل.وقال آخرون: معناه: إلا بحجة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن رجل، عن عكرِمة ( لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ) قال: كلّ شيء في القرآن سلطان فهو حجة.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( بسُلْطانٍ ) قال: بحجة.وقال آخرون : بل معنى ذلك: إلا بملك وليس لكم ملك.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا محمد بن مروان، قال: ثنا أبو العوّام، عن قتادة ( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ) قال: لا تنفذون إلا بملك، وليس لكم ملك.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ ) قال: إلا بسلطان من الله، إلا بملكة منه.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ )، يقول: إلا بملكة من الله.وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: إلا بحجة وبينة، لأن ذلك هو معنى السلطان في كلام العرب، وقد يدخل الملك في ذلك، لأن الملك حجة.
﴿ يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ﴾