ولا تتبع -أيها الإنسان- ما لا تعلم، بل تأكَّد وتثبَّت. إن الإنسان مسؤول عما استعمَل فيه سمعه وبصره وفؤاده، فإذا استعمَلها في الخير نال الثواب، وإذا استعملها في الشر نال العقاب.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«ولا تقفُ» تتبع «ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد» القلب «كل أولئك كان عنه مسؤولاً» صاحبه ماذا فعل به.
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: ولا تتبع ما ليس لك به علم، بل تثبت في كل ما تقوله وتفعله، فلا تظن ذلك يذهب لا لك ولا عليك، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا فحقيق بالعبد الذي يعرف أنه مسئول عما قاله وفعله وعما استعمل به جوارحه التي خلقها الله لعبادته أن يعد للسؤال جوابا، وذلك لا يكون إلا باستعمالها بعبودية الله وإخلاص الدين له وكفها عما يكرهه الله تعالى.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( ولا تقف ما ليس لك به علم ( قال قتادة : لا تقل : رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه .وقال مجاهد : لا ترم أحدا بما ليس لك به علم .قال القتيبي : لا تتبعه بالحدس والظن . وهو في اللغة اتباع الأثر يقال : قفوت فلانا أقفوه وقفيته وأقفيته إذا اتبعت أثره وبه سميت القافية لتتبعهم الآثار .قال القتيبي : هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور أي : يكون في إقفائها يتبعها ويتعرفها .وحقيقة المعنى : لا تتكلم [ أيها الإنسان ] بالحدس والظن .( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ( قيل : معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده .وقيل : يسأل السمع والبصر والفؤاد عما فعله المرء .وقوله : ( كل أولئك ( أي : كل هذه الجوارح والأعضاء وعلى القول الأول يرجع " أولئك " [ إلى ] أربابها .أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن الحسين أخبرنا أبو علي حامد بن محمد الرفاء حدثنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز أخبرنا الفضل بن دكين حدثنا سعد بن أوس العبسي حدثني بلال بن يحيى العبسي أن شتير بن شكل أخبره عن أبيه شكل بن حميد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال : " قل : اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي " قال : فحفظتها قال سعد المني ماؤه .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم ختم- سبحانه- تلك التوجيهات السامية السديدة، بالنهى عن تتبع مالا علم للإنسان به، وعن الفخر والتكبر والخيلاء.. فقال- تعالى-:وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ. وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً.قال القرطبي- رحمه الله- ما ملخصه: قوله- تعالى-: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أى: ولا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك- من قول أو فعل- قال قتادة: لا تقل رأيت وأنت لم تر، وسمعت وأنت لم تسمع، وعلمت وأنت لم تعلم..ثم قال: وأصل القفو البهت، والقذف بالباطل. ومنه قوله- عليه الصلاة والسلام-:«نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا، ولا ننتفى من أبينا» أى: لا نسبّ أمنا.وقال: قفوته أقفوه ... إذا اتبعت أثره. وقافية كل شيء آخره، ومنه اسم النبي صلى الله عليه وسلم: المقفّى، لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام-، ومنه القائف، وهو الذي يتبع الأثر.. .وقال صاحب الكشاف- رحمه الله-: قوله: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ: يعنى، ولا تكن في اتباعك ما لا علم لك به من قول أو فعل، كمن يتبع مسلكا لا يدرى أنه يوصله إلى مقصده فهو ضال. والمراد: النهى عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم.ويدخل فيه النهى عن التقليد الأعمى دخولا ظاهرا لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده.. .وقوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا تحذير شديد من أن يقول الإنسان قولا لا علم له به، أو أن يفعل فعلا بدون تحقق، أو أن يحكم حكما بلا بينة أو دليل.أى: إن السمع الذي تسمع به- أيها المكلف-، والبصر الذي تبصر به، والفؤاد- أى القلب- الذي تحيا به، كل أولئك الأعضاء ستكون مسئولا عن أفعالها يوم القيامة، وسيقال لك بتأنيب وتوبيخ: لماذا سمعت ما لا يحل لك سماعه، ونظرت إلى ما لا يجوز لك النظر إليه، وسعيت إلى ما لا يصح لك أن تسعى إليه!!.وعلى هذا التفسير يكون السؤال في قوله- تعالى-: كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا للإنسان الذي تتبع ما ليس له به علم من قول أو فعل.ومن الآيات التي تشهد لهذا التفسير قوله- تعالى-: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ .ومنهم من يرى أن السؤال موجه إلى تلك الأعضاء، لتنطق بما اجترحه صاحبها، ولتكون شاهدة عليه، فيكون المعنى:.إن السمع والبصر والفؤاد، كل واحد من أولئك الأعضاء، كان مسئولا عن فعله، بأن يقال له: هل استعملك صاحبك فيما خلقت من أجله أولا؟.ويكون هذا السؤال للأعضاء من باب التوبيخ لأصحابها، كما قال- تعالى-: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ .وكما قال- سبحانه-: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ .واسم الإشارة أُولئِكَ على التفسيرين يعود إلى السمع والبصر والفؤاد، إما لأن هذا الاسم يشار به إلى العقلاء ويشار به إلى غير العقلاء، كما في قول الشاعر:ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأياموإما لأن هذه الأعضاء أخذت حكم العقلاء، لأنها جزء منهم، وشاهدة عليهم.وعلى كلا التفسيرين أيضا، يتمثل التحذير الشديد للإنسان عن أن يتبع ما ليس له به علم.قال الجمل: وقوله- تعالى-: كُلُّ أُولئِكَ مبتدأ، خبره جملة كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا، والضمير في «كان» وفي «عنه» وفي «مسئولا» يعود على كل. أى: كان كل واحد منها مسئولا عن نفسه، يعنى عما فعل به صاحبه: ويجوز أن يكون الضمير في: «عنه» لصاحب السمع والبصر والفؤاد.. .وشبيه بهذه الآية في النهى عن اتباع ما لا علم للإنسان به. قوله- تعالى-: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً، وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ .وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ .قال الإمام ابن كثير: ومضمون ما ذكروه- في معنى قوله- تعالى-: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.. أن الله- تعالى- نهى عن القول بلا علم، كما قال- سبحانه-:اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ.. وفي الحديث: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ... » وفي سنن أبى داود: «بئس مطية الرجل زعموا» وفي الحديث الآخر:«إن أفرى الفري- أى أكذب الكذب- أن يرى الرجل عينيه ما لم تريا» .وقال بعض العلماء: وهذه الكلمات القليلة- التي اشتملت عليها الآية- تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا، ويضيف إليه استقامة القلب، ومراقبة الله، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة!.فالتثبت من كل خبر، ومن كل ظاهرة، ومن كل حركة، قبل الحكم عليها، هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق..فلا يقول اللسان كلمة، ولا ينقل رواية، ولا يروى حادثة، ولا يحكم العقل حكما، ولا يبرم الإنسان أمرا. إلا وقد تثبت من كل جزئية، ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها.. .
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول لا تقلوقال العوفي عنه لا ترم أحدا بما ليس لك به علموقال محمد بن الحنفية يعني شهادة الزوروقال قتادة لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم فإن الله سائلك عن ذلك كلهومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن الذي هو التوهم والخيال كما قال تعالى : ( اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ) [ الحجرات 12 ، وفي الحديث إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " وفي سنن أبي داود بئس مطية الرجل : زعموا ، وفي الحديث الآخر إن أفرى الفرى أن يري عينيه ما لم تريا " وفي الصحيح من تحلم حلما كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد .وقوله ( كل أولئك ) أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد ( كان عنه مسئولا ) أي سيسأل العبد عنها يوم القيامة وتسأل عنه وعما عمل فيها ويصح استعمال أولئك مكان " تلك كما قال الشاعر .ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فيه ست مسائل :الأولى : ولا تقف أي لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك . قال قتادة : لا تقل رأيت وأنت لم تر ، وسمعت وأنت لم تسمع ، وعلمت وأنت لم تعلم ; وقاله ابن عباس - رضي الله عنهما - . قال مجاهد : لا تذم أحدا بما ليس لك به علم ; وقاله ابن عباس - رضي الله عنهما - أيضا . وقال محمد ابن الحنفية : هي شهادة الزور . وقال القتبي : المعنى لا تتبع الحدس والظنون ; وكلها متقاربة . وأصل القفو البهت والقذف بالباطل ; ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام - : نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا أي لا نسب أمنا . وقال الكميت :فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن قفينايقال : قفوته أقفوه ، وقفته أقوفه ، وقفيته إذا اتبعت أثره . ومنه القافة لتتبعهم الآثار وقافية كل شيء آخره ، ومنه قافية الشعر ; لأنها تقفو البيت . ومنه اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - المقفي ; لأنه جاء آخر الأنبياء . ومنه القائف ، وهو الذي يتبع أثر الشبه . يقال : قاف القائف يقوف إذا فعل ذلك . وتقول : فقوت للأثر ، بتقديم الفاء على القاف . ابن عطية : ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ ; كما قالوا : رعملي في لعمري . وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : قفا وقاف ، مثل عتا وعات . وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب . وبالجملة فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذف ، وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والرديئة . وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي تقف بضم القاف وسكون الفاء . وقرأ الجراح " والفآد " بفتح الفاء ، وهي لغة لبعض الناس ، وأنكرها أبو حاتم وغيره .الثانية : قال ابن خويز منداد : تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة ; لأنه لما قال : ولا تقف ما ليس لك به علم دل على جواز ما لنا به علم ، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به ، وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص ; لأنه ضرب من غلبة الظن ، وقد يسمى علما اتساعا . فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه . وفي الصحيح عن عائشة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال : ألم تر أن مجززا نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال إن بعض هذه الأقدام لمن بعض . وفي حديث يونس بن يزيد : ( وكان مجزز قائفا ) .الثالثة : قال الإمام أبو عبد الله المازري : كانت الجاهلية تقدح في نسب أسامة لكونه أسود شديد السواد ، وكان زيد أبوه أبيض من القطن ، هكذا ذكره أبو داود عن أحمد بن صالح . قال القاضي عياض : وقال غير أحمد كان زيد أزهر اللون ، وكان أسامة شديد الأدمة ; وزيد بن حارثة عربي صريح من كلب ، أصابه سباء ، حسبما يأتي في سورة [ الأحزاب ] إن شاء الله - تعالى - .الرابعة : استدل جمهور العلماء على الرجوع إلى القافة عند التنازع في الولد ، بسرور النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول هذا القائف ; وما كان - عليه السلام - بالذي يسر بالباطل ولا يعجبه . ولم يأخذ بذلك أبو حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم متمسكين بإلغاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الشبه في حديث اللعان ; على ما يأتي في سورة [ النور ] إن شاء الله - تعالى - .الخامسة : واختلف الآخذون بأقوال القافة ، هل يؤخذ بذلك في أولاد الحرائر والإماء أو يختص بأولاد الإماء ، على قولين ; فالأول : قول الشافعي ومالك - رضي الله عنهما - في رواية ابن وهب عنه ، ومشهور مذهبه قصره على ولد الأمة . والصحيح ما رواه ابن وهب عنه وقال الشافعي - رضي الله عنه - ; لأن الحديث الذي هو الأصل في الباب إنما وقع في الحرائر ، فإن أسامة وأباه حران فكيف يلغى السبب الذي خرج عليه دليل الحكم وهو الباعث عليه ، هذا مما لا يجوز عند الأصوليين . وكذلك اختلف هؤلاء ، هل يكتفى بقول واحد من القافة أو لا بد من اثنين لأنها شهادة ; وبالأول قالابن القاسم وهو ظاهر الخبر بل نصه . وبالثاني قال مالك والشافعي - رضي الله عنهما - .السادسة : قوله تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا أي يسأل كل واحد منهم عما اكتسب ، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه واعتقده ، والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع . وقيل : المعنى أن الله - سبحانه وتعالى - يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده ; ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم - : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإنسان راع على جوارحه ; فكأنه قال : كل هذه كان الإنسان عنه مسئولا ، فهو على حذف مضاف . والمعنى الأول أبلغ في الحجة ; فإنه يقع تكذيبه من جوارحه ، وتلك غاية الخزي ; كما قال : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ، وقوله شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون . وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسئولة ، فهي حالة من يعقل ، فلذلك عبر عنها بأولئك . وقال سيبويه - رحمه الله - في قوله - تعالى - : رأيتهم لي ساجدين : إنما قال : رأيتهم في نجوم ، لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل عبر عنها بكناية من يعقل ; وقد تقدم . وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك ، وأنشد هو والطبري :ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأياموهذا أمر يوقف عنده . وأما البيت فالرواية فيه " الأقوام " والله أعلم .
﴿ تفسير الطبري ﴾
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) فقال بعضهم: معناه: ولا تقل ما ليس لك به علم.* ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) يقول: لا تقل.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله.حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) قال: لا تقل رأيت ولم تر، وسمعت ولم تسمع، وعلمت ولم تعلم.حُدثت عن محمد بن ربيعة، عن إسماعيل الأزرق، عن أبى عمر البزار، عن ابن الحنفية قال: شهادة الزور.وقال آخرون: بل معناه: ولا ترم.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) يقول: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم.حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (وَلا تَقْفُ) ولا ترمِ.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.وهذان التأويلان متقاربا المعنى، لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور، ورمي الناس بالباطل، وادّعاء سماع ما لم يسمعه، ورؤية ما لم يره. وأصل القفو: العضه والبهت، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بن كِنانَة لا نَقْفُو أمِّنا ولا نَنْتَفِي مِنْ أبِينا "، وكان بعض البصريين ينشد في ذلك بيتا:وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ العَرَانِينِ ساكِنٌبِهِنَّ الحَياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافِيا (3)يعني بالتقافي: التقاذف. ويزعم أن معنى قوله (لا تَقْفُ) لا تتبع ما لا تعلم، ولا يعنيك. وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة، يزعم أن أصله القيافة، وهي اتباع الأثر، وإذ كان كما ذكروا وجب أن تكون القراءة (وَلا تَقُفْ) بضم القاف وسكون الفاء، مثل: ولا تقل. قال: والعرب تقول: قفوت أثره، وقُفت أثره، فتقدِّم أحيانا الواو على الفاء وتؤخرها أحيانا بعدها، كما قيل: قاع الجمل الناقة: إذا ركبها وقَعَا وعاثَ وَعَثَى؛ وأنشد سماعا من العرب:ولَوْ أنّي رَمَيْتُكَ مِنْ قَرِيبٍلَعاقَكَ مِنْ دُعاءٍ الذّئْبِ عاقِ (4)يعني عائق، ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب.وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به، فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم بغير الحقّ، فذلك هو القفو.وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه.وأما قوله ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) فإن معناه: إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها، من أنه سمع أو أبصر أو علم ، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحقّ، وقال أولئك، ولم يقل تلك، كما قال الشاعر:ذُمَّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنزلَةِ اللَّوَىوالعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيَّامِ (5)وإنما قيل: أولئك، لأن أولئك وهؤلاء للجمع القليل الذي يقع للتذكير والتأنيث، وهذه وتلك للجمع الكثير، فالتذكير للقليل من باب أَنْ كان التذكير في الأسماء قبل التأنيث لك التذكير للجمع الأوّل، والتأنيث للجمع الثاني، وهو الجمع الكثير، لأن العرب تجعل الجمع على مثال الأسماء.--------------------------الهوامش :(3) البيت للنابغة الجعدي: وهو من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (1 : 379) شاهد على أن معنى التقافي: التقاذف. وفي (اللسان : قفو) قال أبو عبيد الأصل في القفو واتقافي: البهتان يرمى به الرجل صاحبه . أ ه . قال أبو بكر : قولهم قد قفا فلان فلانا قال أبو عبيد : معناه أتبعه أمرا كلاما قبيحا . وقال الليث : القفو : مصدر قولك قفا يقفو وقفوا ( الثاني بتشديد الواو ) ، وهو أن يتبع الشيء : قال تعالى : " ولا تقف ما ليس لك به علم " قال الفراء : أكثر القراء يجعلونها من قفوت ، كما تقول : لا تدع من دعوت . قال : وقرأ بعضهم: ولا تقف مثل ولا تقل . وقال الأخفش في قوله تعالى : "ولا تقف ما ليس لك به علم": أي لا تتبع ما لا تعلم . وقيل: ولا تقل سمعت ولم تسمع ، ولا رأيت ولم تر ، ولا علمت ولم تعلم ؛ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا . أ . ه . والدمى جمع دمية ، وهي التمثال من المرمر أو العاج أو نحوهما . وشم العرانين : جمع شماء العرنين ، أي مرتفعات قصبات الأنوف ، وهو من أمارات جمالهن.(4) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 179 ) على أن العرب تقول قفا الشيء : إذا تتبعه كما تقول قافه . وكما قال الشاعر : عاقى ، يريد عائق . قال الفراء : أكثر القراء يجعلونها من قفوت ... وبعضهم قال : ولا تقف . والعرب تقول : قفت أثره ، وقفوته ؛ ومثله : يعتام ويعتمي ، وعاث وعثى ، من الفساد ، وهو كثير ، منه شاك السلاح ، وشاكي السلاح . وسمعت بعض قضاعة يقول : اجتحى ماله ، واللغة الفاشية : اجتاح ماله . وقد قال الشاعر : " ولو أني رأيتك " ... إلخ البيت . هذا وقد نقلنا في الشاهد الذي قبل هذا عبارة الفراء ، كما جاءت في اللسان ، وفيها اختلال عن عبارته هنا في معاني القرآن ، ولعله من اختلاف النسخ . وأورد الفراء بعد بيت الشاهد بيتا آخر من وزنه وقافيته ، وهو لذي الخرق الطهوي كما في ( اللسان : بغم ) :حَسِبْتُ بُغامَ رَاحِلَتِي عَنَاقَاوَما هِيَ وَيْبَ غَيرِك بالعَناقِوقد سبق الاستشهاد به في أكثر من موضع من هذا التفسير .(5) البيت لجرير بن الخطفي ( ديوانه طبعة الصاوى ص 551 ) وهو البيت الثاني من قصيدة يجيب بها الفرزدق ، مطلعها:سَرتِ الهُمومُ فَبِتْنَ غَيرَ نِيامِوأخُو الهُمومِ يَرُومُ كلَّ مَرَامِالشاهد في هذا البيت أنه أشار إلى الأيام بأولئك ، ولم يقل تلك ، لأن أولئك يشار بها إلى الجمع الكثير ، وهؤلاء إلى الجمع القليل ، للمذكر والمؤنث والعاقل وغيره .
﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ﴾