وليحكم أهل الإنجيل الذين أُرسِل إليهم عيسى بما أنزل الله فيه. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الخارجون عن أمره، العاصون له.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«و» قلنا «لْيَحْكُمْ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه» من الأحكام وفي قراءة بنصب يحكم وكسر لامه عطفا على معمول آتيناه «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون».
( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ) قرأ الأعمش وحمزة " وليحكم " بكسر اللام وفتح الميم ، أي لكي يحكم ، وقرأ الآخرون بسكون اللام وجزم الميم على الأمر ، قال مقاتل بن حيان : أمر الله الربانيين والأحبار أن يحكموا بما في التوراة ، وأمر القسيسين والرهبان أن يحكموا بما في الإنجيل ، فكفروا وقالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) الخارجون عن أمر الله تعالى .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقوله- تعالى-: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أمر من الله- تعالى- لأتباع سيدنا عيسى- عليه السلام- الذين وجدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكموا فيما بينهم بمقتضى أحكام الإنجيل بدون تحريف أو تبديل. أما الذين وجدوا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فمن الواجب عليهم أن يصدقوه ويتبعوا شريعته، لأن الشريعة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم نسخت ما قبلها من شرائع.قال الآلوسى ما ملخصه، قوله: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعلموا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكام، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله، بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها، لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها. واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي.وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على قوله وَآتَيْناهُ.أى: - وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور- وقلنا ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه. وحذف القول- لدلالة ما قبله عليه- كثير في الكلام. ومنه قوله- تعالى-:وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ.واختار ذلك على بن عيسى.وقرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ- بكسر اللام وفتح الميم- بأن مضمرة- بعد لام كي- والمصدر معطوف على هُدىً وَمَوْعِظَةً على تقدير كونهما معللين. أى: وآتيناه ليحكم.وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تذييل مقرر ومؤكد لوجوب الامتثال لأحكام الله- تعالى-. أى: ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم المتمردون الخارجون عن جادة الحق. وعن السنن القويم، والصراط المستقيم.قال أبو حيان: قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ناسب هنا ذكر الفسق، لأنه خرج عن أمر الله- تعالى- إذ تقدم قوله: وَلْيَحْكُمْ وهو أمر كما قال- تعالى- للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.أى: خرج عن طاعته» وقال صاحب المنار ما ملخصه: وأنت إذا تأملت الآيات السابقة ظهر لك نكتة التعبير بالكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية، وبوصف الفسوق في الثالثة.ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع، وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء بالعمل والحكم به. فكان من المناسب أن يختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له، مؤثرا لغيره عليه. يكون كافرا به.وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء. فمن لم يحكم بحكم الله في ذلك يكون ظالما في حكمه.وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته. فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا فهم الفاسقون بالمعصية، والخروج عن محيط تأديب الشريعة .وبعد أن تحدث- سبحانه- عن التوراة والإنجيل وما فيهما من الهدى والنور، وأمر باتباع تعاليمهما.. عقب ذلك بالحديث عن القرآن الكريم الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال- تعالى-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
وقوله : ( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ) قرئ ( وليحكم ) بالنصب على أن اللام لام كي ، أي : وآتيناه الإنجيل [ فيه هدى ونور ] ليحكم أهل ملته به في زمانهم . وقرئ : ( وليحكم ) بالجزم ؛ اللام لام الأمر ، أي : ليؤمنوا بجميع ما فيه ، وليقيموا ما أمروا به فيه ، ومما فيه البشارة ببعثة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد ، كما قال تعالى : ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) الآية [ المائدة : 68 ] وقال تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة [ والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم ] المفلحون ) [ الأعراف : 157 ] ; ولهذا قال هاهنا : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) أي : الخارجون عن طاعة ربهم ، المائلون إلى الباطل ، التاركون للحق . وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى وهو ظاهر السياق .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه قرأ الأعمش وحمزة بنصب الفعل على أن تكون اللام لام كي ، والباقون بالجزم على الأمر ; فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله : وآتيناه فلا يجوز الوقف ; أي : وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه ، ومن قرأه على الأمر فهو كقوله : وأن احكم بينهم فهو إلزام مستأنف يبتدأ به ، أي : ليحكم أهل الإنجيل أي : في ذلك الوقت ، فأما الآن فهو منسوخ ، وقيل : هذا أمر للنصارى الآن بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ; فإن في الإنجيل وجوب الإيمان به ، والنسخ إنما يتصور في الفروع لا في الأصول . قالمكي : والاختيار الجزم ; لأن الجماعة عليه ; ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل . قال النحاس : والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان ; لأن الله عز وجل لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه ، وأمر بالعمل بما فيه ; فصحتا جميعا .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله عزّ ذكره : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: " وليحكم أهل الإنجيل ".فقرأته قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: (3) " وَلْيَحْكُمْ" بتسكين " اللام "، على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل: أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك، أراد: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهْلَه أن يحكموا بما أنزل الله فيه= فيكون في الكلام محذوف، ترك استغناءً بما ذكر عما حُذِف.* * *وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ ) بكسر " اللام "، من " ليحكم "، بمعنى: كي يحكم أهل الإنجيل. وكأنّ معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، كي يحكم أهله بما فيه من حكم الله.* * *والذي نقول به في ذلك، (4) أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيِّ ذلك قرأ قارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ.وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابًا على نبيٍّ من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه، فللعمل بما فيه أنزله، وأمرًا بالعمل بما فيه أنزله. (5) فكذلك الإنجيل، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى، وأمرًا بالعمل به أهلَه أنزله عليه. (6) فسواءٌ قرئ على وجه الأمر بتسكين " اللام "، أو قرئ على وجه الخبر بكسرها، لاتفاق معنييهما.* * *وأما ما ذكر عن أبيّ بن كعب من قراءته ذلك ( وأن ليحكم ) على وجه الأمر، فذلك مما لم يَصِحّ به النقل عنه. ولو صحّ أيضا، لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورةً، إذ كان معناها صحيحًا، وكان المتقدّمون من أئمة القرأة قد قرءوا بها.* * *وإذ كان الأمر في ذلك على ما بيَّنَّا، فتأويل الكلام، إذا قرئ بكسر " اللام " من " ليحكم ": وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدًى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتقين، وكيْ يحكم أهلُ الإنجيل بما أنزلنا فيه، فبدّلوا حكمه وخالفوه، فضلُّوا بخلافهم إياه إذ لم يحكموا بما أنزل الله فيه وخالفوه=" فأولئك هم الفاسقون "، يعني: الخارجين عن أمر الله فيه، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه.* * *فأما إذا قرئ بتسكين " اللام "، فتأويله: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدى ونورٌ ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهله أن يحكُموا بما أنزلنا فيه، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه، ولكنهم خالفوا أمرنا، فالذين خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه، هم الفاسقون.* * *وكان ابن زيد يقول: " الفاسقون "، في هذا الموضع وفي غيره، هم الكاذبون.12103 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون "، قال: ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضًا بذلك=" فأولئك هم الفاسقون "، قال: الكاذبون. بهذا قال. وقال ابن زيد: كل شيء في القرآن إلا قليلا " فاسق " فهو كاذب. وقرأ قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [سورة الحجرات: 6] قال: " الفاسق "، ههنا، كاذب.* * *وقد بينا معنى " الفسق " بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (7)-----------------الهوامش :(3) في المطبوعة: "فقرأ قراء الحجاز..." ، وأثبت ما في المخطوطة.(4) في المطبوعة: "والذي يتراءى في ذلك" ، وفي المخطوطة: "وللذي يترك [محذوفة النقط] به في ذلك" ، وأرجح أن صواب قراءتها ما أثبت.(5) في المطبوعة: "وأمر بالعمل بما فيه أهله" ، فغير ما في المخطوطة تغييرًا مفسدًا للمعنى ، مزيلا لقصد أبي جعفر من هذه الجملة التي احتج بها في تقارب معنى القراءتين. وهذا عجب من سوء التصرف. وكذلك سيفعل في الجملة التالية ، كما سترى في التعليق.(6) في المطبوعة ، أسقط قوله: "أنزله عليه" وكتب"وأمر بالعمل به أهله" ، فأخل بمقصد أبي جعفر ، كما فعل بالجملة السالفة. انظر التعليق السالف.(7) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف ص: 189 تعليق: 4 ، والمراجع هناك.وعند هذا الموضع ، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا ، وفيها ما نصه:"يتلوه القول في تأويل قوله:وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بِيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عليه.وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم كثيرًا".ثمّ يتلوه ما نصه:"بسم الله الرحمن الرحيم"
﴿ وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون ﴾