وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه الله إلا وحيًا يوحيه الله إليه، أو يكلمه من وراء حجاب، كما كلَّم سبحانه موسى عليه السلام، أو يرسل رسولا كما ينزل جبريل عليه السلام إلى المرسل إليه، فيوحي بإذن ربه لا بمجرد هواه ما يشاء الله إيحاءه، إنه تعالى عليٌّ بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، قد قهر كل شيء ودانت له المخلوقات، حكيم في تدبير أمور خلقه. وفي الآية إثبات صفة الكلام لله تعالى على الوجه اللائق بجلاله وعظيم سلطانه.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا» أن يوحي إليه «وحياً» في المنام أو بإلهام «أو» إلا «من وراء حجاب» بأن يسمعه كلامه ولا يراه كما وقع لموسى عليه السلام «أو» إلا أن «يرسل رسولاً» ملكاً كجبريل «فيوحي» الرسول إلى المرسل إليه أي يكلمه «بإذنه» أي الله «ما يشاء» الله «إنه عليّ» عن صفات المحدثين «حكيم» في صنعه.
﴿ تفسير السعدي ﴾
لما قال المكذبون لرسل الله، الكافرون بالله: لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ من كبرهم وتجبرهم، رد الله عليهم بهذه الآية الكريمة، وأن تكليمه تعالى لا يكون إلا لخواص خلقه، للأنبياء والمرسلين، وصفوته من العالمين، وأنه يكون على أحد هذه الأوجه.إما أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ وَحْيًا بأن يلقي الوحي في قلب الرسول، من غير إرسال ملك، ولا مخاطبة منه شفاها. أَوْ يكلمه منه شفاها، لكن مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كما حصل لموسى بن عمران، كليم الرحمن. أَوْ يكلمه الله بواسطة الرسول الملكي، ف يُرْسِلَ رَسُولًا كجبريل أو غيره من الملائكة. فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ أي: بإذن ربه، لا بمجرد هواه، إِنَّهُ تعالى علي الذات، علي الأوصاف، عظيمها، علي الأفعال، قد قهر كل شيء، ودانت له المخلوقات. حكيم في وضعه كل شيء في موضعه، من المخلوقات والشرائع.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) وذلك أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه ؟ فقال : لم ينظر موسى إلى الله - عز وجل - فأنزل الله تعالى : " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا " يوحي إليه في المنام أو بالإلهام ، ( أو من وراء حجاب ) يسمعه كلامه ولا يراه ، كما كلمه موسى عليه الصلاة والسلام . ( أو يرسل رسولا ) إما جبريل أو غيره من الملائكة ، ( فيوحي بإذنه ما يشاء ) أي : يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله ما يشاء .قرأ نافع : " أو يرسل " برفع اللام على الابتداء ، " فيوحي " ساكنة الياء ، وقرأ الآخرون بنصب اللام والياء عطفا على محل الوحي لأن معناه : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل رسولا . ( إنه علي حكيم ) .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- الطرق التي بها يقع التكليم منه- تعالى- للمختارين من عباده فقال:وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ...فهذه الآية الكريمة قد دلت على أن تكليم الله- تعالى- للبشر وقع على ثلاثة أوجه:الأول: عن طريق الوحى، وهو الإعلام في خفاء وسرعة عن طريق الإلقاء في القلب يقظة أو مناما، ويشمل الإلهام والرؤيا المنامية.والوحى مصدر أوحى، وقد غلب استعماله فيما يلقى للمصطفين الأخيار من الكلمات الإلهية.والثاني: عن طريق الإسماع من وراء حجاب، أى حاجز، بأن يسمع النبي كلاما دون أن يرى من يكلمه، كما حدث لموسى. عليه السلام- عند ما كلمه ربه- عز وجل-، وهذا الطريق هو المقصود بقوله- تعالى-: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ.والثالث: عن طريق إرسال ملك، وظيفته أن يبلغ الرسول ما أمره الله بتبليغه له، وهو المقصود بقوله- تعالى- أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ.وهذا الطريق الثالث قد وضحه الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن عائشة- رضى الله عنها- أن الحارث بن هشام، سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحى؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس- وهو أشده على- أى: أحيانا يأتينى مشابها صوته وقوع الحديد بعضه على بعض- فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعى ما يقول.قالت عائشة: ولقد رأيته صلّى الله عليه وسلّم ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه،وإن جبينه ليتفصد عرقا.والمعنى: وما صح وما استقام لبشر أن يكلمه الله- تعالى- في من حال الأحوال إلا موحيا إليه، أو مسمعا إياه ما يريد إسماعه له من وراء حجاب أو يرسل إليه ملكا ليبلغه ما يريده- سبحانه- منه.وقوله- تعالى- إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ تعليل لما قبله، أى: إنه- سبحانه- متعال عن صفات النقص، حكيم في كل أقواله وأفعاله.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله ، عز وجل ، وهو أنه تعالى تارة يقذف في روع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل ، كما جاء في صحيح ابن حبان ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن روح القدس نفث في روعي : أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب " .وقوله : ( أو من وراء حجاب ) كما كلم موسى ، عليه السلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم ، فحجب عنها .وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجابر بن عبد الله : " ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحا " الحديث ، وكان [ أبوه ] قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في عالم البرزخ ، والآية إنما هي في الدار الدنيا .وقوله : ( أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) كما ينزل جبريل [ عليه السلام ] وغيره من الملائكة على الأنبياء ، عليهم السلام ، ( إنه علي حكيم ) ، فهو علي عليم خبير حكيم .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم .فيه مسألتان : الأولى : قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا سبب ذلك أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه ، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن موسى لن ينظر إليه فنزل قوله : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ، ذكره النقاش والواحدي والثعلبي . ( وحيا ) قال مجاهد : نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاما ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب . خذوا ما حل ودعوا ما حرم . أو من وراء حجاب كما كلم موسى . أو يرسل رسولا كإرساله جبريل عليه السلام . وقيل : إلا وحيا رؤيا يراها في منامه ، قاله محمد بن زهير . أو من وراء حجاب كما كلم موسى . أو يرسل رسولا قال زهير : هو جبريل عليه السلام . فيوحي بإذنه ما يشاء وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقا ويرونه عيانا . وهكذا كانت حال جبريل - عليه السلام - إذا نزل بالوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : نزل جبريل - عليه السلام - على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا عليهم السلام . فأما غيرهم فكان وحيا إلهاما في المنام . وقيل : إلا وحيا بإرسال جبريل أو من وراء حجاب كما كلم موسى . أو يرسل رسولا إلى الناس كافة . وقرأ الزهري وشيبة ونافع ( أو يرسل رسولا فيوحي ) برفع الفعلين . الباقون بنصبهما . فالرفع على الاستئناف ، أي : وهو يرسل . وقيل : ( يرسل ) بالرفع في موضع الحال ، والتقدير إلا موحيا أو مرسلا . ومن نصب عطفوه على محل الوحي ; لأن معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي أو يرسل . ويجوز أن يكون النصب على تقدير حذف الجار من أن المضمرة . ويكون في موضع الحال ، التقدير أو بأن يرسل رسولا . ولا يجوز أن يعطف ( أو يرسل ) بالنصب على ( أن يكلمه ) لفساد المعنى ; لأنه يصير : ما كان لبشر أن يرسله أو أن يرسل إليه رسولا ، وهو قد أرسل الرسل من البشر وأرسل إليهم .الثانية : احتج بهذه الآية من رأى فيمن حلف ألا يكلم رجلا فأرسل إليه رسولا أنه حانث ، لأن المرسل قد سمي فيها مكلما للمرسل إليه ، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب . قال ابن المنذر : واختلفوا في الرجل يحلف ألا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا ، فقال الثوري : الرسول ليس بكلام . وقال الشافعي : لا يبين أن يحنث . وقال النخعي : والحكم في الكتاب يحنث . وقال مالك : يحنث في الكتاب والرسول . وقال مرة : الرسول أسهل من الكتاب . وقال أبو عبيد : الكلام سوى الخط والإشارة . وقال أبو ثور : لا يحنث في الكتاب . قال ابن المنذر : لا يحنث في الكتاب والرسول .قلت : وهو قول مالك . قال أبو عمر : ومن حلف ألا يكلم رجلا فسلم عليه عامدا أو ساهيا ، أو سلم على جماعة هو فيهم فقد حنث في ذلك كله عند مالك . وإن أرسل إليه رسولا أو سلم عليه في الصلاة لم يحنث .قلت : يحنث في الرسول إلا أن ينوي المشافهة ، للآية ، وهو قول مالك وابن الماجشون . وقد مضى في أول ( سورة مريم ) هذا المعنى عن علمائنا مستوفى ، والحمد لله .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)يقول تعالى ذكره: وما ينبغي لبشر من بني آدم أن يكلمه ربه إلا وحيا يوحي الله إليه كيف شاء, أو إلهاما (1) وإما غيره ( أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) يقول: أو يكلمه بحيث يسمع كلامه ولا يراه, كما كلم موسى نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا ) يقول: أو يرسل الله من ملائكته رسولا إما جبرائيل, وإما غيره ( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) يقول: فيوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن ربه ما يشاء, يعني: ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهي, وغير ذلك من الرسالة والوحي.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله عز وجل: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا ) يوحي إليه ( أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) موسى كلمه الله من وراء حجاب,( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) قال: جبرائيل يأتي بالوحي.واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا ) فيوحي, فقرأته عامة قرّاء الأمصار ( فَيُوحِيَ ) بنصب الياء عطفا على ( يُرْسِلَ ), ونصبوا( يُرْسِلَ ) عطفا بها على موضع الوحي, ومعناه, لأن معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي إليه أو يرسل إليه رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء. وقرأ ذلك نافع المدني" فَيُوحِي" بإرسال الياء بمعنى الرفع عطفا به على ( يُرْسِلَ ), وبرفع ( يُرْسِلُ ) على الابتداء.وقوله: ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) يقول تعالى ذكره إنه يعني نفسه جلّ ثناؤه: ذو علو على كل شيء وارتفاع عليه, واقتدار. حكيم: يقول: ذو حكمة في تدبيره خلقه.------------------------الهوامش:(1) كذا في الخط ، ولعله إما إلقاء أو إلهاما الخ .
﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ﴾