سَنُري هؤلاء المكذبين آياتنا من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان، وفي أقطار السماوات والأرض، وما يحدثه الله فيهما من الحوادث العظيمة، وفي أنفسهم وما اشتملت عليه من بديع آيات الله وعجائب صنعه، حتى يتبين لهم من تلك الآيات بيان لا يقبل الشك أن القرآن الكريم هو الحق الموحَى به من رب العالمين. أولم يكفهم دليلا على أن القرآن حق، ومَن جاء به صادق، شهادة الله تعالى؟ فإنه قد شهد له بالتصديق، وهو على كل شيء شهيد، ولا شيء أكبر شهادة من شهادته سبحانه وتعالى.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«سنريهم آياتنا في الآفاق» أقطار السماوات والأرض من النيرات والنبات والأشجار «وفي أنفسهم» من لطيف الصنعة وبديع الحكمة «حتى يتبين لهم أنه» أي القرآن «الحق» المنزل من الله بالبعث والحساب والعقاب، فيعاقبون على كفرهم به وبالجائي به «أوَلم يكف بربك» فاعل يكف «أنه على كل شيءٍ شهيد» بدل منه، أي أوَلم يكفهم في صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء ما.
﴿ تفسير السعدي ﴾
فإن قلتم، أو شككتم بصحته وحقيقته، فسيقيم اللّه لكم، ويريكم من آياته في الآفاق كالآيات التي في السماء وفي الأرض، وما يحدثه اللّه تعالى من الحوادث العظيمة، الدالة للمستبصر على الحق. وَفِي أَنْفُسِهِمْ مما اشتملت عليه أبدانهم، من بديع آيات اللّه وعجائب صنعته، وباهر قدرته، وفي حلول العقوبات والمثلات في المكذبين، ونصر المؤمنين. حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ من تلك الآيات، بيانًا لا يقبل الشك أَنَّهُ الْحَقُّ وما اشتمل عليه حق.وقد فعل تعالى، فإنه أرى عباده من الآيات، ما به تبين لهم أنه الحق، ولكن اللّه هو الموفق للإيمان من شاء، والخاذل لمن يشاء. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: أولم يكفهم على أن القرآن حق، ومن جاء به صادق، بشهادة اللّه تعالى، فإنه قد شهد له بالتصديق، وهو أصدق الشاهدين، وأيده، ونصره نصرًا متضمنًا لشهادته القولية، عند من شك فيها.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( سنريهم آياتنا في الآفاق ) قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يعني منازل الأمم الخالية . ( وفي أنفسهم ) بالبلاء والأمراض .وقال قتادة : في الآفاق يعني : وقائع الله في الأمم ، وفي أنفسهم يوم بدر .وقال مجاهد ، والحسن ، والسدي : " في الآفاق " : ما يفتح من القرى على محمد - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، " وفي أنفسهم " : فتح مكة . ( حتى يتبين لهم أنه الحق ) يعني : دين الإسلام . وقيل : القرآن يتبين لهم أنه من عند الله . وقيل : محمد - صلى الله عليه وسلم - يتبين لهم أنه مؤيد من قبل الله تعالى .وقال عطاء وابن زيد : " في الآفاق " يعني : أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار . " وفي أنفسهم " من لطيف الصنعة وبديع الحكمة ، حتى يتبين لهم أنه الحق .( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) قال مقاتل : أولم يكف بربك شاهدا أن القرآن من الله تعالى . قال الزجاج : معنى الكفاية هاهنا : أن الله - عز وجل - قد بين من الدلائل ما فيه كفاية ، يعني : أولم يكف بربك ؛ لأنه على كل شيء شهيد ، شاهد لا يغيب عنه شيء .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- أن حكمته قد اقتضت أن يطلع الناس في كل زمان ومكان على دلائل وحدانيته وقدرته، وعلى صدق رسوله صلّى الله عليه وسلم فيما بلغه عنه، فقال: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ...والمراد بالآيات في قوله آياتِنا: الدلائل والبراهين الدالة على وحدانيته- سبحانه- وعلى صدق رسوله صلّى الله عليه وسلم.والآفاق: جمع أفق- كأعناق جمع عنق- وهو الناحية والجهة، يقال: أفق فلان يأفق- كضرب يضرب- إذا سار في آفاق الأرض وجهاتها المتعددة.والمعنى: سنطلع الناس على دلائل وحدانيتنا وقدرتنا في أقطار السموات والأرض، من شمس وقمر ونجوم، وليل ونهار، ورياح وأمطار، وزرع وثمار، ورعد وبرق وصواعق، وجبال وبحار.سنطلعهم على مظاهر قدرتنا في هذه الأشياء الخارجية التي يرونها بأعينهم، كما سنطلعهم على آثار قدرتنا في أنفسهم عن طريق ما أودعنا فيهم من حواس وقوى، وعقل، وروح، وعن طريق ما يصيبهم من خير وشر، ونعمة ونقمة.ولقد صدق الله- تعالى- وعده، ففي كل يوم بل في كل ساعة، يطلع الناس على أسرار جديدة في هذا الكون الهائل، وفي أنفسهم.. وكلها تدل على وحدانيته، - تعالى- وقدرته، وعلى صحة دين الإسلام الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام.وقوله- تعالى-: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ استئناف مسوق لتوبيخ الكافرين على عنادهم مع ظهور الأدلة على أن ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم من عند ربه هو الحق المبين.والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام، والباء مزيدة للتأكيد، وقوله بِرَبِّكَ فاعل كفى.والمعنى: ألم يغن هؤلاء الجاحدين عن الآيات الموعودة الدالة على صحة هذا الدين، أن ربك- أيها الرسول الكريم- شهيد على كل شيء، وعلى أنك صادق فيما تبلغه عنه.. بلى.إن في شهادة ربك وعلمه بكل شيء ما يغنيك عن كل شيء سواه.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
ثم قال : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ) أي : سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقا منزلا من عند الله ، عز وجل ، على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بدلائل خارجية ( في الآفاق ) ، من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان .قال مجاهد ، والحسن ، والسدي : ودلائل في أنفسهم ، قالوا : وقعة بدر ، وفتح مكة ، ونحو ذلك من الوقائع التي حلت بهم ، نصر الله فيها محمدا وصحبه ، وخذل فيها الباطل وحزبه .ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة ، كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى . وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة ، من حسن وقبيح وبين ذلك ، وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله ، وقوته ، وحيله ، وحذره أن يجوزها ، ولا يتعداها ، كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه " التفكر والاعتبار " ، عن شيخه أبي جعفر القرشي :وإذا نظرت تريد معتبرا فانظر إليك ففيك معتبر أنت الذي يمسي ويصبح فيالدنيا وكل أموره عبر أنت المصرف كان في صغرثم استقل بشخصك الكبر أنت الذي تنعاه خلقتهينعاه منه الشعر والبشر أنت الذي تعطى وتسلب لاينجيه من أن يسلب الحذر أنت الذي لا شيء منه لهوأحق منه بماله القدروقوله تعالى : ( حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) ؟ أي : كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم ، وهو يشهد أن محمدا صادق فيما أخبر به عنه ، كما قال : ( لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ) [ النساء : 166 ] .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم أي علامات وحدانيتنا وقدرتنا في الآفاق يعني خراب منازل الأمم الخالية وفي أنفسهم بالبلايا والأمراض . وقال ابن زيد : " في الآفاق " آيات السماء " وفي أنفسهم " حوادث الأرض . وقال مجاهد : في الآفاق فتح القرى ، فيسر الله - عز وجل - لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللخلفاء من بعده وأنصار دينه في آفاق الدنيا وبلاد المشرق والمغرب عموما ، وفي ناحية المغرب خصوصا من الفتوح التي لم يتيسر أمثالها لأحد من خلفاء الأرض قبلهم ، ومن الإظهار على الجبابرة والأكاسرة وتغليب قليلهم على كثيرهم ، وتسليط ضعفائهم على أقويائهم ، وإجرائه على أيديهم أمورا خارجة عن المعهود خارقة للعادات " وفي أنفسهم " فتح مكة . وهذا اختيار الطبري . وقاله المنهال بن عمرو والسدي . وقال قتادة والضحاك : " في الآفاق " وقائع الله في الأمم " وفي أنفسهم " يوم بدر . وقال عطاء وابن زيد أيضا في الآفاق يعني أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد والبرق والصواعق والنبات والأشجار والجبال والبحار وغيرها . وفي الصحاح : الآفاق النواحي ، واحدها أفق ، وأفق مثل عسر وعسر ، ورجل أفقي بفتح الهمزة والفاء : إذا كان من آفاق الأرض . حكاه أبو نصر . وبعضهم يقول : أفقي بضمها وهو القياس . وأنشد غير الجوهري :أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالعوفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة حتى سبيل الغائط والبول ، فإن الرجل يشرب ويأكل من مكان واحد ويتميز ذلك من مكانين ، وبديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء ينظر بهما من السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام ، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة . وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه . وقيل : وفي أنفسهم من كونهم نطفا إلى غير ذلك من انتقال أحوالهم كما تقدم في ( المؤمنون ) بيانه . وقيل : المعنى سيرون ما أخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفتن وأخبار الغيوبحتى يتبين لهم أنه الحق فيه أربعة أوجه : [ أحدها ] أنه القرآن . [ الثاني ] الإسلام جاءهم به الرسول ودعاهم إليه . [ الثالث ] أن ما يريهم الله ويفعل من ذلك هو الحق . [ الرابع ] أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو الرسول الحق .أولم يكف بربك في موضع رفع بأنه فاعل ب " يكف " و " أنه " بدل من ربك ، فهو رفع إن قدرته بدلا على الموضع ، وجر إن قدرته بدلا على اللفظ . ويجوز أن يكون نصبا بتقدير حذف اللام ، والمعنى أولم يكفهم ربك بما دلهم عليه من توحيده ; لأنه على كل شيء شهيد وإذا شهده جازى عليه . وقيل : المعنى أولم يكف بربك في معاقبته الكفار . وقيل : المعنى أولم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار . وقيل : أولم يكف بربك شاهدا على أن القرآن من عند الله . وقيل : أولم يكف بربك أنه على كل شيء مما يفعله العبد شهيد ، والشهيد بمعنى العالم ، أو هو من الشهادة التي هي الحضور
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)يقول تعالى ذكره: سنري هؤلاء المكذّبين, ما أنزلنا على محمد عبدنا من الذكر, آياتنا في الآفاق.واختلف أهل التأويل في معنى الآيات التي وعد الله هؤلاء القوم أن يريهم, فقال بعضهم: عني بالآيات في الآفاق وقائع النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم بنواحي بلد المشركين من أهل مكة وأطرافها, وبقوله: ( وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) فتح مكة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كريب, قال: ثنا ابن يمان, عن سفيان, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن أبي قيس, عن المنهال, في قوله: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ ) قال: ظهور محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على الناس.حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ ) يقول: ما نفتح لك يا محمد من الآفاق ( وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) في أهل مكة, يقول: نفتح لك مكة.وقال آخرون: عنى بذلك أنه يريهم نجوم الليل وقمره, وشمس النهار, وذلك ما وعدهم أنه يريهم في الآفاق. وقالوا: عنى بالآفاق: آفاق السماء, وبقوله: ( وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) سبيل الغائط والبول.* ذكر من قال ذلك:حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد, في قوله: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) قال: آفاق السموات: نجومها وشمسها وقمرها اللاتي يجرين, وآيات فى أنفسهم أيضا.وأولى القولين في ذلك بالصواب القول الأول, وهو ما قاله السديّ, وذلك أن الله عزّ وجلّ وعد نبيّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أن يري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذّبين آيات في الآفاق, وغير معقول أن يكون تهدّدهم بأن يريهم ما هم راءوه, بل الواجب أن يكون ذلك وعدا منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا راؤه قبل من ظهور نبيّ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم, فأما النجوم والشمس والقمر, فقد كانوا يرونها كثيرا قبل وبعد ولا وجه لتهددهم بأنه يريهم ذلك.وقوله: ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) يقول جلّ ثناؤه: أري هؤلاء المشركين وقائعنا بأطرافهم وبهم حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا إلى محمد, وأوحينا إليه من الوعد له بأنا مظهرو ما بعثناه به من الدين على الأديان كلها, ولو كره المشركون.وقوله: ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) يقول تعالى ذكره: أولم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على كل شيء مما يفعله خلقه, لا يعزب عنه علم شيء منه, وهو مجازيهم على أعمالهم, المحسن بالإحسان, والمسيء جزاءه.وفي قوله: ( أنَّهُ ) وجهان:أحدهما: أن يكون في موضع خفض على وجه تكرير الباء, فيكون معنى الكلام حينئذ: أولم يكف بربك بأنه على كلّ شيء شهيد؟ والآخر: أن يكون في موضع رفع رفعا, بقوله: يكف, فيكون معنى الكلام: أولم يكف بربك شهادته على كل شيء.
﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ﴾