هذا الشراب الذي مزج من الكافور هو عين يشرب منها عباد الله، يتصرفون فيها، ويُجْرونها حيث شاؤوا إجراءً سهلا. هؤلاء كانوا في الدنيا يوفون بما أوجبوا على أنفسهم من طاعة الله، ويخافون عقاب الله في يوم القيامة الذي يكون ضرره خطيرًا، وشره فاشيًا منتشرًا على الناس، إلا مَن رحم الله، ويُطْعِمون الطعام مع حبهم له وحاجتهم إليه، فقيرًا عاجزًا عن الكسب لا يملك من حطام الدنيا شيئًا، وطفلا مات أبوه ولا مال له، وأسيرًا أُسر في الحرب من المشركين وغيرهم، ويقولون في أنفسهم: إنما نحسن إليكم ابتغاء مرضاة الله، وطلب ثوابه، لا نبتغي عوضًا ولا نقصد حمدًا ولا ثناءً منكم. إنا نخاف من ربنا يومًا شديدًا تَعْبِس فيه الوجوه، وتتقطَّبُ الجباه مِن فظاعة أمره وشدة هوله.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«ويطعمون الطعام على حبه» أي الطعام وشهوتهم له «مسكينا» فقيرا «ويتيما» لا أب له «وأسيرا» يعني المحبوس بحق.
﴿ تفسير السعدي ﴾
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطعام، لكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم، ويتحرون في إطعامهم أولى الناس وأحوجهم مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا .
﴿ تفسير البغوي ﴾
"ويطعمون الطعام على حبه"، أي على حب الطعام وقلته وشهوتهم له وحاجتهم إليه. وقيل: على حب الله عز وجل، "مسكيناً"، فقيراً لا مال له، "ويتيماً"، صغيراً لا أب له "وأسيراً"، قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء: هو المسجون من أهل القبلة. وقال قتادة: أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك. وقيل: الأسير المملوك. وقيل: المرأة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان" أي أسراء. واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، قال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً ويتيماً وأسيراً. وروى مجاهد وعطاء عن ابن عباس: أنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أنه عمل ليهودي بشيء من شعير، فقبض الشعير فطحن ثلثه فجعلوا منه شيئاً ليأكلوه، فلما تم إنضاجه أتى مسكين فسأل فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين، فسأل فأطعموه، وطووا يومهم ذلك: وهذا قول الحسن وقتادة، أن الأسير كان من أهل الشرك، وفيه دليل على أن إطعام الأسارى، وإن كانوا من أهل الشرك، حسن يرجى ثوابه.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم وصفهم- سبحانه- بصفات أخرى فقال: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً.أى: أن هؤلاء الأبرار من صفاتهم- أيضا أنهم يطعمون الطعام مع حب هذا الطعام لديهم، ومع حاجتهم إليه واشتهائهم له.ومع كل ذلك فهم يقدمونه للمسكين، وهو المحتاج إلى غيره لفقره وسكونه عن الحركة..ولليتيم: وهو من فقد أباه وهو صغير، وللأسير: وهو من أصبح أمره بيد غيره. وخص الإطعام بالذكر: لما في تقديمه من كرم وسخاء وإيثار، لا سيما مع الحاجة إليه، كما يشعر به قوله- تعالى- عَلى حُبِّهِ أى: على حبهم لذلك الطعام، وقيل الضمير في قوله عَلى حُبِّهِ يعود إلى الله- عز وجل- أى: يطعمون الطعام على حبهم له- تعالى-.والأول أولى. ويؤيده قوله- تعالى- لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ.و «على» هنا بمعنى مع، والجملة في محل نصب على الحال. أى: حالة كونهم كائنين على حب هذا الطعام.وخص هؤلاء الثلاثة بالذكر، لأنهم أولى الناس بالرعاية والمساعدة.وقد ذكروا في سبيل نزول هذه الآية، والآيتين اللتين يعدها، روايات منها، أنها نزلت في الإمام على وزوجه فاطمة- رضى الله عنهما-.قال القرطبي- بعد أن ذكر هذه الروايات-: والصحيح أنها نزلت في جميع الأبرار، وفي كل من فعل فعلا حسنا، فهي عامة...
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
وقوله : ( ويطعمون الطعام على حبه ) قيل : على حب الله تعالى . وجعلوا الضمير عائدا إلى الله عز وجل لدلالة السياق عليه . والأظهر أن الضمير عائد على الطعام ، أي : ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له ، قاله مجاهد ومقاتل ، واختاره ابن جرير ، كقوله تعالى : ( وآتى المال على حبه ) [ البقرة : 177 ] ، وكقوله تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [ آل عمران : 92 ] .وروى البيهقي ، من طريق الأعمش ، عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنبا - أول ما جاء العنب - فأرسلت صفية - يعني امرأته - فاشترت عنقودا بدرهم ، فاتبع الرسول السائل ، فلما دخل به قال السائل : السائل . فقال ابن عمر : أعطوه إياه ، فأعطوه إياه . ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودا فاتبع الرسول السائل ، فلما دخل قال السائل : السائل ، فقال ابن عمر : أعطوه إياه ، فأعطوه إياه ، فأرسلت صفية إلى السائل ، فقالت : والله إن عدت لا تصيب منه خيرا أبدا . ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به .وفي الصحيح : " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح ، شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر " أي : في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ; ولهذا قال تعالى : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) أما المسكين واليتيم ، فقد تقدم بيانهما وصفتهما . وأما الأسير : فقال سعيد بن جبير والحسن والضحاك : الأسير : من أهل القبلة . وقال ابن عباس : كان أسراؤهم يومئذ مشركين . ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء ، وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة .وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غيرما حديث ، حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول : " الصلاة وما ملكت أيمانكم " .وقال عكرمة : هم العبيد - واختاره ابن جرير - لعموم الآية للمسلم والمشرك .قال مجاهد : هو المحبوس ، أي : يطعمون لهؤلاء الطعام وهم يشتهونه ويحبونه
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه قال ابن عباس ومجاهد : على قلته وحبهم إياه وشهوتهم له . وقال الداراني : على حب الله . وقال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطعام . وكان الربيع بن خثيم إذا جاءه السائل قال : أطعموه سكرا فإن الربيع يحب السكر .مسكينا أي ذا مسكنة . وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : هو الطواف يسألك مالك ويتيما أي من يتامى المسلمين . وروى منصور عن الحسن : أن يتيما كان يحضر طعام ابن عمر ، فدعا ذات يوم بطعامه ، وطلب اليتيم فلم يجده ، وجاءه بعدما فرغ ابن عمر من طعامه فلم يجد الطعام ، فدعا له بسويق وعسل ; فقال : دونك هذا ، فوالله ما غبنت ; قال الحسن وابن عمر : والله ما غبن . وأسيرا أي الذي يؤسر فيحبس . فروى أبو صالح عن ابن عباس قال : الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم . وقال قتادة . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : الأسير هو المحبوس . وكذا قال سعيد بن جبير وعطاء : هو المسلم يحبس بحق . وعن سعيد بن جبير مثل قول قتادة وابن عباس . قال قتادة : لقد أمر الله بالأسرى أن يحسن إليهم ، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك ، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه . وقال عكرمة : الأسير العبد . وقال أبو حمزة الثمالي : الأسير المرأة ، يدل عليه قوله - عليه السلام - : استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم أي أسيرات . وقال أبو سعيد الخدري : قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا فقال : " المسكين الفقير ، واليتيم الذي لا أب له ، والأسير المملوك والمسجون " ذكره الثعلبي . وقيل : نسخ إطعام المسكين آية الصدقات ; وإطعام الأسير آية السيف ; قاله سعيد بن جبير . وقال غيره : بل هو ثابت الحكم ، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع ، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلا أن يتخير فيه الإمام . الماوردي : ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل ; لأنه في أسر خبله وجنونه ، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام ; وهذا بر وإحسان . وعن عطاء قال : الأسير من أهل القبلة وغيرهم .قلت : وكأن هذا القول عام يجمع جميع الأقوال ، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى ، غير أنه من صدقة التطوع ، فأما المفروضة فلا . والله أعلم . ومضى القول في المسكين واليتيم والأسير ، واشتقاق ذلك من اللغة في ( البقرة ) مستوفى والحمد لله .
﴿ تفسير الطبري ﴾
وقوله: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ) يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء الأبرار يطعمون الطعام على حبهم إياه، وشهوتهم له.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ) قال: وهم يشتهونه.&; 24-97 &;حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو العريان، قال: سألت سليمان بن قيس أبا مقاتل بن سليمان، عن قوله: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ) قال: على حبهم للطعام.وقوله: ( مِسْكينًا ) يعني جلّ ثناؤه بقوله مسكينا: ذوي الحاجة الذين قد أذلتهم الحاجة، ( ويَتِيمًا ) وهو الطفل الذي قد مات أبوه ولا شيء له ( وأسِيرًا ) : وهو الحربيّ من أهل دار الحرب يُؤخذ قهرا بالغلبة، أو من أهل القبلة يُؤخذ فيُحبس بحقّ، فأثنى الله على هؤلاء الأبرار بإطعامهم هؤلاء تقرّبا بذلك إلى الله وطلب رضاه، ورحمة منهم لهم.واختلف أهل العلم في الأسير الذي ذكره الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: بما حدثنا به بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) قال: لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وأسِيرًا ) قال: كان أسراهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه.قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو أن عكرِمة قال في قوله: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) زعم أنه قال: كان الأسرى في ذلك الزمان المشرك.حدثنا ابن بشار، قال: ثنا حماد بن مسعدة، قال: ثنا أشعث، عن الحسن ( وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) قال: ما كان أسراهم إلا المشركين.وقال آخرون: عني بذلك: المسجون من أهل القبلة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الأسير: المسجون.حدثني أبو شيبة بن أبي شيبة، قال: ثنا عمر بن حفص، قال: ثني أبي عن حجاج، قال: ثني عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جُبير في قوله الله: ( مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) من أهل القبلة وغيرهم، فسألت عطاء، فقال مثل ذلك.حدثني علي بن سهل الرملي، قال: ثنا يحيى - يعني: ابن عيسى - عن سفيان، &; 24-98 &; عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وأسِيرًا ) قال: الأسير،: هو المحبوس.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الأبرار بأنهم كانوا في الدنيا يطعمون الأسير، والأسير الذي قد وصفت صفته؛ واسم الأسير قد يشتمل على الفريقين، وقد عمّ الخبر عنهم أنهم يطعمونهم فالخبر على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له. وأما قول من قال: لم يكن لهم أسير يومئذ إلا أهل الشرك، فإن ذلك وإن كان كذلك، فلم يخصص بالخبر الموفون بالنذر يومئذ، وإنما هو خبر من الله عن كلّ من كانت هذه صفته يومئذ وبعده إلى يوم القيامة، وكذلك الأسير معنيّ به أسير المشركين والمسلمين يومئذ، وبعد ذلك إلى قيام الساعة.