لا تظن -أيها الرسول- أن قصة أصحاب الكهف واللوح الذي كُتِبت فيه أسماؤهم من آياتنا عجيبة وغريبة؛ فإن خلق السموات والأرض وما فيهما أعجب من ذلك.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«أم حسبت» أي ظننت «أن أصحاب الكهف» الغار في الجبل «والرقيم» اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن قصتهم «كانوا» في قصتهم «من» جملة «آياتنا عجبا» خبر كان وما قبله حال، أي كانوا عجبا دون باقي الآيات أو أعجبها ليس الأمر كذلك.
﴿ تفسير السعدي ﴾
وهذا الاستفهام بمعنى النفي، والنهي. أي: لا تظن أن قصة أصحاب الكهف، وما جرى لهم، غريبة على آيات الله، وبديعة في حكمته، وأنه لا نظير لها، ولا مجانس لها، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير، من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها، فلم يزل الله يري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، ما يتبين به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب، بل هي من آيات الله العجيبة، وإنما المراد، أن جنسها كثير جدا، فالوقوف معها وحدها، في مقام العجب والاستغراب، نقص في العلم والعقل، بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات الله، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها، فإنها مفتاح الإيمان، وطريق العلم والإيقان. وأضافهم إلى الكهف، الذي هو الغار في الجبل، الرقيم، أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم، لملازمتهم له دهرا طويلا.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) يعني : أظننت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا أي : هم عجب من آياتنا .وقيل : معناه إنهم ليسوا بأعجب من آياتنا فإن ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب منهم .و " الكهف " : هو الغار في الجبل واختلفوا في " الرقيم " : قال سعيد بن جبير : هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصصهم - وهذا أظهر الأقاويل - ثم وضعوه على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل : من حجارة فعلى هذا يكون الرقيم بمعنى المرقوم أي : المكتوب والرقم : الكتابة .وحكي عن ابن عباس أنه اسم للوادي الذي فيه أصحاب الكهف وعلى هذا هو من رقمة الوادي وهو جانبه .وقال كعب الأحبار : هو اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف .وقيل : اسم للجبل الذي فيه الكهف .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
قال الإمام الرازي: اعلم أن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الامتحان، فقال- تعالى-: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ لا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب فإن من كان قادرا على خلق السموات والأرض، وعلى تزيين الأرض بما عليها من نبات وحيوان ومعادن، ثم يجعلها بعد ذلك صعيدا جرزا خالية من الكل، كيف يستبعد من قدرته وحفظه ورحمته حفظ طائفة من الناس مدة ثلاثمائة سنة وأكثر في النوم..» .وعلى ذلك يكون المقصود بهذه الآيات الكريمة، بيان أن قصة أصحاب الكهف ليست شيئا عجبا بالنسبة لقدرة الله- تعالى-.وقد ذكر المفسرون في سبب نزول قصة أصحاب الكهف روايات ملخصها: أن قريشا بعثت النضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط، إلى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول. وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره صلى الله عليه وسلم فقالوا لهما سلوه عن ثلاث نأمركم بهن. فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول.سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ماذا كان من خبرهم. فإنهم قد كان لهم حديث عجيب.وسلوه عن رجل طواف طاف المشارق والمغارب ماذا كان من خبره؟ وسلوه عن الروح، ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه.فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش. فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور.ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا، ثم سألوه عما قالته لهم يهود.فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سأجيبكم غدا بما سألتم عنه ولم يستثن-: أى. ولم يقل إن شاء الله- فانصرفوا عنه.ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة. لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل- عليه السلام- حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه. وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشق عليه ما تكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، وقول الله- تعالى- وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا .والخطاب في قوله- تعالى- أَمْ حَسِبْتَ.. للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه غيره من المكلفين.و «أم» في هذه الآية هي المنقطعة، وتفسر عند الجمهور بمعنى بل والهمزة، أى: بل أحسبت، وعند بعض العلماء تفسر بمعنى بل، فتكون للانتقال من كلام إلى آخر، أى: بل حسبت. ويرى بعضهم أنها هنا بمعنى الهمزة التي للاستفهام الإنكارى أى: أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم.والكهف: هو النقب المتسع في الجبل، فإن لم يكن فيه سعة فهو غار، وجمعه كهوف.والمراد به هنا: ذلك الكهف الذي اتخذه هؤلاء الفتية مستقرا لهم.وأما الرقيم فقد ذكروا في المراد به أقوالا متعددة منها: أنه اسم كلبهم، ومنها أنه اسم الجبل أو الوادي الذي كان فيه الكهف، ومنها أنه اسم القرية التي خرج منها هؤلاء الفتية.ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد به اللوح الذي كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم، فيكون الرقيم بمعنى المرقوم- فهو فعيل بمعنى مفعول- ومأخوذ من رقمت الكتاب إذا كتبته.ومنه قوله- تعالى- كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ. كِتابٌ مَرْقُومٌ . أى مكتوب.قال بعض العلماء: والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم: طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين: أحدهما: معطوف على الآخر، خلافا لمن قال أن أصحاب الكهف طائفة، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى، وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف، ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم. وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدّت عليهم باب الكهف فدعوا الله بصالح أعمالهم فانفرجت، وهم البار بوالديه، والعفيف، والمستأجر، وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد بعيد كما ترى» .والمعنى: أظننت- أيها الرسول الكريم- أن ما قصصناه عليك من شأن هؤلاء الفتية، كان من بين آياتنا الدالة على قدرتنا شيئا عجبا؟ لا، لا تظن ذلك فإن قدرتنا لا يعجزها شيء.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
هذا إخبار عن قصة أصحاب الكهف [ والرقيم ] على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم بسطها بعد ذلك فقال : ( أم حسبت ) يعني : يا محمد ( أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) أي : ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا وسلطاننا ، فإن خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، وتسخير الشمس والقمر والكواكب ، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى ، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف [ والرقيم ] كما قال ابن جريج عن مجاهد : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) يقول : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك!وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ) يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب ، أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم .وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت من حججي على العباد ، أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم .[ وأما " الكهف " فهو : الغار في الجبل ، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون . وأما " الرقيم " ] فقال العوفي ، عن ابن عباس : هو واد قريب من أيلة . وكذا قال عطية العوفي ، وقتادة .وقال الضحاك : أما " الكهف " فهو : غار الوادي ، و " الرقيم " : اسم الوادي .وقال مجاهد : " الرقيم " : كان بنيانهم ويقول بعضهم : هو الوادي الذي فيه كهفهم .وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " الرقيم " ، قال : يزعم كعب أنها القرية .وقال ابن جريج عن ابن عباس : " الرقيم " الجبل الذي فيه الكهف .وقال ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن [ مجاهد عن ] ابن عباس قال : اسم ذلك الجبل بنجلوس .وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي : أن اسم جبل الكهف بنجلوس ، واسم الكهف حيزم ، والكلب حمران .وقال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : القرآن أعلمه إلا حنانا ، والأواه ، والرقيم .وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما أدري ما الرقيم ؟ أكتاب أم بنيان ؟وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرقيم : الكتاب . وقال سعيد بن جبير : [ الرقيم ] لوح من حجارة ، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف .وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم : الكتاب . ثم قرأ : ( كتاب مرقوم ) [ المطففين : 9 ]وهذا هو الظاهر من الآية ، وهو اختيار ابن جرير قال : " الرقيم " فعيل بمعنى مرقوم ، كما يقول للمقتول : قتيل ، وللمجروح : جريح . والله أعلم .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا مذهب سيبويه أن " أم " إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام ، وهي المنقطعة . وقيل : " أم " عطف على معنى الاستفهام في لعلك ، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار . قال الطبري : وهو تقرير للنبي - صلى الله عليه وسلم - على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا ، بمعنى إنكار ذلك عليه ; أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع ; هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ; وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا ، وعن ذي القرنين وعن الروح ، وأبطأ الوحي على ما تقدم . فلما نزل قال الله - تعالى - لنبيه - عليه السلام - : أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ; أي ليسوا بعجب من آياتنا ، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم . الكلبي : خلق السماوات والأرض أعجب من خبرهم . الضحاك : ما أطلعتك عليه من الغيب أعجب . الجنيد : شأنك في الإسراء أعجب . الماوردي : معنى الكلام النفي ; أي ما حسبت لولا إخبارنا . أبو سهل : استفهام تقرير ; أي أحسبت ذلك فإنهم عجب . والكهف : النقب المتسع في الجبل ; وما لم يتسع فهو غار . وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال : الكهف الجبل ; وهذا غير شهير في اللغة .واختلف الناس في الرقيم ; فقال ابن عباس : كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة : غسلين وحنان والأواه والرقيم . وسئل مرة عن الرقيم فقال : زعم كعب أنها قرية خرجوا منها . وقال مجاهد : الرقيم واد . وقال السدي : الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف . وقال ابن زيد : الرقيم كتاب غم الله علينا أمره ، ولم يشرح لنا قصته . وقالت فرقة : الرقيم كتاب في لوح من نحاس . وقال ابن عباس : في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذي فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم ، ذكروا وقت فقدهم ، وكم كانوا ، وبين من كانوا . وكذا قال الفراء ، قال : الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا . قال ابن عطية : ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث ، وذلك من نبل المملكة ، وهو أمر مفيد . وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم ; ومنه كتاب مرقوم . ومنه الأرقم لتخطيطه . ومنه رقمة الوادي ; أي مكان جري الماء وانعطافه . وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض ; لأن القول الأول إنما سمعه من كعب . والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده . وروى عنه سعيد بن جبير قال : ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال : إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال : ليكونن لهم نبأ ، وأحضر لوحا من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته ; فذلك اللوح هو الرقيم . وقيل : إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان ; فالله أعلم . وعن ابن عباس أيضا : الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى - عليه السلام - . وقال النقاش عن قتادة : الرقيم دراهمهم . وقال أنس بن مالك والشعبي : الرقيم كلبهم . وقال عكرمة : الرقيم الدواة . وقيل : الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر . وقيل : الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم ; فذكر كل واحد منهم أصلح عمله .قلت : وفي هذا خبر معروف أخرجه الصحيحان ، وإليه نحا البخاري . وقال قوم : أخبر الله عن أصحاب الكهف ، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء . وقال الضحاك : الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف ، فعلى هذا هم فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف . والله أعلم . وقيل : الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف ; مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء ; يقال : عليك بالرقمة ودع الضفة ; ذكره الغزنوي ، . قال ابن عطية : وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير كهف فيه موتى ، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة . وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة ، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة . ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف ، دخلت إليهم ورأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة ، وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم ، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة ، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس ، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها .قلت : ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم ، لأن الله - تعالى - يقول في حق أصحاب الكهف : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا . وقال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم : قد منع الله من هو خير منك عن ذلك ; وسيأتي في آخر القصة . وقال مجاهد في قوله كانوا من آياتنا عجبا قال : هم عجب . كذا روى ابن جريج عنه ; يذهب إلى أنه بإنكار على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون عنده أنهم عجب . وروى ابن نجيح عنه قال : يقول ليس بأعجب آياتنا .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، فإن ما خلقت من السماوات والأرض، وما فيهنّ من العجائب أعجب من أمر أصحاب الكهف، وحجتي بكل ذلك ثابتة على هؤلاء المشركين من قومك، وغيرهم من سائر عبادي.وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) قال محمد بن عمرو في حديثه، قال: ليسوا عجبا بأعجب آياتنا ، وقال الحارث في حديثه بقولهم: أعجب آياتنا: ليسوا أعجب آياتنا.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) كانوا يقولون هم عجب.حدثنا بشر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) أي وما قدروا من قَدْر فيما صنعت من أمر الخلائق، وما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك.وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عَجَبا، فإن الذي آتيتك من العلم والحكمة أفضل منه.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.وإنما قلنا: إن القول الأول أولى بتأويل الآية، لأنّ الله عزّ وجلّ أنزل قصة أصحاب الكهف على نبيه احتجاجا بها على المشركين من قومه على ما ذكرنا في الرواية عن ابن عباس، إذ سألوه عنها اختبارا منهم له بالجواب عنها صدقه، فكان تقريعهم بتكذييهم بما هو أوكد عليهم في الحجة مما سألوا عنهم، وزعموا أنهم يؤمنون عند الإجابة عنه أشبه من الخبر عما أنعم الله على رسوله من النعم.وأما الكهف، فإنه كهف الجبل الذي أوى إليه القوم الذين قصّ الله شأنهم في هذه السورة.وأما الرقيم، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به، فقال بعضهم : هو اسم قرية، أو واد على اختلاف بينهم في ذلك.* ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن عبد الأعلى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: يزعم كعب أن الرقيم: القرية.حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) قال: الرقيم: واد بين عُسْفان وأيَلة دون فلسطين، وهو قريب من أيَلة.حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية، قال: الرقيم: واد.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) كنَّا نحدّث أن الرقيم: الوادي الذي فيه أصحاب الكهف.حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله (الرَّقِيمِ) قال: يزعم كعب: أنها القرية.حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قوله: (الرَّقِيمِ) قال: يقول بعضهم: الرقيم: كتاب تبانهم ، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.حدثنا عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان ، قال: سمعت الضحاك يقول: أما الكهف: فهو غار الوادي، والرقيم : اسم الوادي.وقال آخرون: الرقيم: الكتاب.* ذكر من قال ذلك:حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) يقول: الكتاب.حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا أبي، عن ابن قيس، عن سعيد بن جبير، قال: الرقيم: لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف.حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرقيم: كتاب، ولذلك الكتاب خبر فلم يخبر الله عن ذلك الكتاب وعنا فيه، وقرأ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ .وقال آخرون: بل هو اسم جبل أصحاب الكهف.* ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الرقيم: الجبل الذي فيه الكهف.قال أبو جعفر: وقد قيل إن اسم ذلك الجبل: بناجلوس.حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: وقد قيل: إن اسمه بنجلوس.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجَبئي (4) أن اسم جبل الكهف: بناجلوس. واسم الكهف: حيزم. والكلب : حُمران.وقد روي عن ابن عباس في الرقيم ما حدثنا به الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه، إلا حنانا، والأوّاه، والرقيم.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم، أكتاب، أم بنيان؟ .وأولى هذه الأقوال بالصواب في الرقيم أن يكون معنيا به: لوح، أو حجر، أو شيء كُتب فيه كتاب، وقد قال أهل الأخبار: إن ذلك لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أوَوْا إلى الكهف.ثم قال بعضهم: رُفع ذلك اللوح في خزانة الملك، وقال بعضهم: بل جُعل على باب كهفهم، وقال بعضهم: بل كان ذلك محفوظا عند بعض أهل بلدهم ، وإنما الرقيم: فعيل، أصله: مرقوم، ثم صُرف إلى فعيل، كما قيل للمجروح: جريح، وللمقتول: قتيل، يقال منه: رقمت كذا وكذا: إذا كتبته، ومنه قيل للرقم في الثوب رقم، لأنه الخطّ الذي يعرف به ثمنه ، ومن ذلك قيل للحيَّة: أرقم، لما فيه من الآثار ، والعرب تقول: عليك بالرقمة، ودع الضفة: بمعنى عليك برقمة الوادي حيث الماء، ودع الضفة الجانبة. والضفتان: جانبا الوادي، وأحسب أن الذي قال الرقيم: الوادي، ذهب به إلى هذا، أعني به إلى رقمة الوادي.
﴿ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ﴾