أهذا الكافر المتمتع بكفره خير، أم من هو عابد لربه طائع له، يقضي ساعات الليل في القيام والسجود لله، يخاف عذاب الآخرة، ويأمُل رحمة ربه؟ قل -أيها الرسول-: هل يستوي الذين يعلمون ربهم ودينهم الحق والذين لا يعلمون شيئًا من ذلك؟ لا يستوون. إنما يتذكر ويعرف الفرق أصحاب العقول السليمة.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«أمَّن» بتخفيف الميم «هو قانت» قائم بوظائف الطاعات «آناء الليل» ساعاته «ساجدا وقائما» في الصلاة «يحذر الآخرة» أي يخاف عذابها «ويرجو رحمة» جنة «ربه» كمن هو عاص بالكفر أو غيره، وفي قراءة أم من فأم بمعنى بل والهمزة «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» أي لا يستويان كما لا يستوي العالم والجاهل «إنما يتذكر» يتعظ «أولوا الألباب» أصحاب العقول.
﴿ تفسير السعدي ﴾
هذه مقابلة بين العامل بطاعة اللّه وغيره، وبين العالم والجاهل، وأن هذا من الأمور التي تقرر في العقول تباينها، وعلم علما يقينا تفاوتها، فليس المعرض عن طاعة ربه، المتبع لهواه، كمن هو قانت أي: مطيع للّه بأفضل العبادات وهي الصلاة، وأفضل الأوقات وهو أوقات الليل، فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء، وذكر أن متعلق الخوف عذاب الآخرة، على ما سلف من الذنوب، وأن متعلق الرجاء، رحمة اللّه، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ربهم ويعلمون دينه الشرعي ودينه الجزائي، وما له في ذلك من الأسرار والحكم وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ شيئا من ذلك؟ لا يستوي هؤلاء ولا هؤلاء، كما لا يستوي الليل والنهار، والضياء والظلام، والماء والنار. إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ إذا ذكروا أُولُو الْأَلْبَابِ أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل، وطاعة اللّه على مخالفته، لأن لهم عقولا ترشدهم للنظر في العواقب، بخلاف من لا لب له ولا عقل، فإنه يتخذ إلهه هواه.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( أم من هو قانت ) قرأ ابن كثير ونافع وحمزة : " أمن " بتخفيف الميم ، وقرأ الآخرون بتشديدها ، فمن شدد فله وجهان :أحدهما : أن تكون الميم في " أم " صلة ، فيكون معنى الكلام استفهاما وجوابه محذوفا مجازه : أمن هو قانت كمن هو غير قانت ؟ كقوله : " أفمن شرح الله صدره للإسلام " ( الزمر - 22 ) يعني كمن لم يشرح صدره .والوجه الآخر : أنه عطف على الاستفهام مجازه : الذي جعل لله أندادا خير أمن هو قانت ؟ . ومن قرأ بالتخفيف فهو ألف استفهام دخلت على من ، معناه : أهذا كالذي جعل لله أندادا ؟وقيل : الألف في " أمن " بمعنى حرف النداء ، تقديره : يا من هو قانت ، والعرب تنادي بالألف كما تنادي بالياء ، فتقول : أبني فلان ويا بني فلان ، فيكون معنى الآية : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ، يا من هو قانت ( آناء الليل ) إنك من أهل الجنة ، قاله ابن عباس .وفي رواية عطاء : نزلت في أبي بكر الصديق .وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - .وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان .وعن الكلبي أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان .والقانت : المقيم على الطاعة . قال ابن عمر : " القنوت " : قراءة القرآن وطول القيام ، و " آناء الليل " : ساعاته ، ( ساجدا وقائما ) يعني : في الصلاة ، ( يحذر الآخرة ) يخاف الآخرة ، ( ويرجو رحمة ربه ) يعني : كمن لا يفعل شيئا من ذلك ، ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) قيل : " الذين يعلمون " عمار ، " والذين لا يعلمون " : أبو حذيفة المخزومي ، ( إنما يتذكر أولو الألباب ) .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم نفى- سبحانه- المساواة بين هذا الإنسان المشرك وبين الإنسان الملازم لطاعة ربه فقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ...وكلمة «أمّن» أصلها «أم» التي بمعنى بل وهمزة الاستفهام. و «من» التي هي اسم موصول وهي هنا مبتدأ وخبره محذوف. والقانت: من القنوت بمعنى ملازمة الطاعة والمواظبة عليها بخشوع وإخلاص.وآناء الليل: ساعاته: والاستفهام للإنكار والنفي.أى: بل أمن هو قائم ساعات الليل لعبادة الله- ساجدا وقائما يحذر عذاب الآخرة، ويرجو رحمة ربه، كمن هو جاعل لله- تعالى- شركاء في العبادة؟مما لا شك أنهما لا يستويان في عرف أى عاقل، وفي نظر أى ناظر.ويصح أن تكون «أم» متصلة. وقد حذف معادلها ثقة بدلالة الكلام عليه، فيكون المعنى:أهذا الكافر الذي جعل لله أندادا ليضل عن سبيله أحسن حالا، أم الذي هو ملازم للطاعات آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه؟ووصف القنوت بأنه في آناء الليل، لأن العبادة في تلك الأوقات أقرب إلى القبول وقدم السجود على القيام، لأن السجود أدخل في معنى العبادة.قال الآلوسى ما ملخصه: وقد ذكروا أن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان، وقيل في عمار بن ياسر.. والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين، ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت، وفيها دليل على فضل الخوف والرجاء.وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت، فقال له: كيف تجدك؟قال: أرجو وأخاف. فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو، وآمنه الذي يخاف» .ثم نفى- سبحانه- أيضا المساواة بين العالم والجاهل فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله أندادا: إنه لا يستوي عند الله- تعالى- المشرك والمؤمن، ولا يستوي عنده- أيضا- الذين يعلمون الحق، ويعملون بمقتضى علمهم، والذين لا يعلمونه ويعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم، ويعرضون عن كل من يدعوهم إلى الحق وإلى الصراط المستقيم.ثم ختم- سبحانه- الآية الكريمة بقوله: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ أى: إنما يعتبر ويتعظ بهذه التوجيهات والإرشادات، أصحاب العقول السليمة والمدارك القويمة. ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين بأن يواظبوا على إخلاص العبادة لله- تعالى- وأن يهاجروا إلى الأرض التي يتمكنون فيها من نشر دينه وإعلاء كلمته، وأن ينذر المشركين بسوء المصير إذا ما استمروا في كفرهم وضلالهم.. فقال- تعالى-:
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى : أمن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادا ؟ لا يستوون عند الله ، كما قال تعالى : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) [ آل عمران : 113 ] ، وقال هاهنا : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ) أي : في حال سجوده وفي حال قيامه ; ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة ، ليس هو القيام وحده كما ، ذهب إليه آخرون .قال الثوري ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن ابن مسعود أنه قال : القانت المطيع لله ولرسوله .وقال ابن عباس ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد : ( آناء الليل ) : جوف الليل . وقال الثوري ، عن منصور : بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء .وقال الحسن ، وقتادة : ( آناء الليل ) : أوله وأوسطه وآخره .وقوله : ( يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) أي : في حال عبادته خائف راج ، ولا بد في العبادة من هذا وهذا ، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب ; ولهذا قال : ( يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) ، فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه ، كما قال الإمام عبد بن حميد في مسنده .حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا ثابت عن أنس قال : دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل وهو في الموت ، فقال له : " كيف تجدك ؟ " قال : أرجو وأخاف . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله - عز وجل - الذي يرجو ، وأمنه الذي يخافه " .ورواه الترمذي والنسائي في " اليوم والليلة " ، وابن ماجه ، من حديث سيار بن حاتم ، عن جعفر بن سليمان ، به . وقال الترمذي : " غريب . وقد رواه بعضهم عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا " .وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا عمر بن شبة ، عن عبيدة النميري ، حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى الخزاز ، حدثنا يحيى البكاء ، أنه سمع ابن عمر قرأ : ( أم من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) ; قال ابن عمر : ذاك عثمان بن عفان ، رضي الله عنه .وإنما قال ابن عمر ذلك ; لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته ، حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة ، كما روى ذلك أبو عبيدة عنه - رضي الله عنه - وقال الشاعر .ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآناوقال الإمام أحمد : كتب إلي الربيع بن نافع : حدثنا الهيثم بن حميد ، عن زيد بن واقد ، عن سليمان بن موسى ، عن كثير بن مرة ، عن تميم الداري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة " .وكذا رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن إبراهيم بن يعقوب ، عن عبد الله بن يوسف والربيع بن نافع ، كلاهما عن الهيثم بن حميد ، به .وقوله : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) أي : هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله ؟ ! ( إنما يتذكر أولو الألباب ) أي : إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : أمن هو قانت آناء الليل بين تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره . وقرأ الحسن وأبو عمرو وعاصم والكسائي أمن بالتشديد . وقرأ نافع وابن كثير ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة : " أمن هو " بالتخفيف على معنى النداء ، كأنه قال : يا من هو قانت . قال الفراء : الألف بمنزلة يا ، تقول : يا زيد أقبل ، وأزيد أقبل . وحكي ذلك عن سيبويه وجميع النحويين ، كما قال أوس بن حجر :أبني لبينى لستم بيد إلا يدا ليست لها عضدوقال آخر هو ذو الرمة :أدارا بحزوى هجت للعين عبرة فماء الهوى يرفض أو يترقرقفالتقدير على هذا : " قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار " يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة ، كما يقال في الكلام : فلان لا يصلي ولا يصوم ، فيا من يصلي ويصوم أبشر ، فحذف لدلالة الكلام عليه . وقيل : إن الألف في " أمن " ألف استفهام أي : " أمن هو قانت آناء الليل " أفضل ؟ أم من جعل لله أندادا ؟ والتقدير : الذي هو قانت خير . ومن شدد " أمن " فالمعنى : العاصون المتقدم ذكرهم خير أمن هو قانت فالجملة التي عادلت " أم " محذوفة ، والأصل أم من فأدغمت في الميم . النحاس : وأم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي ، والتقدير : أم الذي هو قانت أفضل ممن ذكر .وفي قانت أربعة أوجه : أحدها : أنه المطيع ، قاله ابن مسعود . الثاني : أنه الخاشع في صلاته ، قاله ابن شهاب . الثالث : أنه القائم في صلاته ، قاله يحيى بن سلام . الرابع : أنه الداعي لربه . وقول ابن مسعود يجمع ذلك . وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كل قنوت في القرآن فهو طاعة لله - عز وجل - وروي عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي الصلاة أفضل ؟ فقال : طول القنوت وتأوله جماعة من أهل العلم على أنه طول القيام . وروى عبد الله عن نافع عن ابن عمر سئل عن القنوت فقال : ما أعرف القنوت إلا طول القيام ، وقراءة القرآن . وقال مجاهد : من القنوت طول الركوع وغض البصر . وكان العلماء إذا وقفوا في الصلاة غضوا أبصارهم ، وخضعوا ولم يلتفتوا في صلاتهم ، ولم يعبثوا ولم يذكروا شيئا من أمر الدنيا إلا ناسين . قال النحاس : أصل هذا أن القنوت الطاعة ، فكل ما قيل فيه فهو طاعة لله عز وجل ، فهذه الأشياء كلها داخلة في الطاعة ، وما هو أكثر منها كما قال نافع : قال لي ابن عمر : قم فصل ، فقمت أصلي وكان علي ثوب خلق ، فدعاني فقال لي : أرأيت لو وجهتك في حاجة أكنت تمضي هكذا ؟ فقلت : كنت أتزين ، قال : فالله أحق أن تتزين له . واختلف في تعيين القانت هاهنا ، فذكر يحيى بن سلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس في رواية الضحاك عنه : هو أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما . وقال ابن عمر : هو عثمان - رضي الله عنه - . وقال مقاتل : إنه عمار بن ياسر . الكلبي : صهيب وأبو ذر وابن مسعود . وعن الكلبي أيضا أنه مرسل فيمن كان على هذه الحال . آناء الليل قال الحسن : ساعاته ، أوله وأوسطه وآخره . وعن ابن عباس : آناء الليل جوف الليل . قال ابن عباس : من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة ، فليره الله في ظلمة الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ، ويرجو رحمة ربه . وقيل : ما بين المغرب والعشاء . وقول الحسن عام . " يحذر الآخرة " قال سعيد بن جبير : أي : عذاب الآخرة ." ويرجو رحمة ربه " أي نعيم الجنة . وروي عن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو فقال : هذا متمن . ولا يقف على قوله : " رحمة ربه " من خفف " أمن هو قانت " على معنى النداء ; لأن قوله : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون متصل إلا أن يقدر في الكلام حذف وهو أيسر ، على ما تقدم بيانه .قال الزجاج : أي : كما لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . وقال غيره : الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به ، فأما من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم ." إنما يتذكر أولو الألباب " أي أصحاب العقول من المؤمنين
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ (9)اختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( أَمِنَ ) فقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وعامة الكوفيين: " أمن " بتخفيف الميم، ولقراءتهم ذلك كذلك وجهان: أحدهما أن يكون الألف في" أمَّنْ" بمعنى الدعاء, يراد بها: يا من هو قانت آناء الليل, والعرب تنادي بالألف كما تنادي بيا, فتقول: أزيد أقبل, ويا زيد أقبل، ومنه قول أوس بن حجر:أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُم بِيَدٍإلا يَدٌ لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ (5)وإذا وجهت الألف إلى النداء كان معنى الكلام: قل تمتع أيها الكافر بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار, ويا من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما إنك من أهل الجنة, ويكون في النار عمى للفريق الكافر عند الله من الجزاء في الآخرة, الكفاية عن بيان ما للفريق المؤمن, إذ كان معلوما اختلاف أحوالهما في الدنيا, ومعقولا أن أحدهما إذا كان من أصحاب النار لكفره بربه أن الآخر من أصحاب الجنة, فحذف الخبر عما له, اكتفاءً بفهم السامع المراد منه من ذكره, إذ كان قد دلّ على المحذوف بالمذكور. والثاني: أن تكون الألف التي في قوله: " أمن " ألف استفهام, فيكون معنى الكلام: أهذا كالذي جعل لله أندادا ليضلّ عن سبيله, ثم اكتفى بما قد سبق من خبر الله عن فريق الكفر به من أعدائه, إذ كان مفهوما المراد بالكلام, كما قال الشاعر:فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتَانَا رَسُولُهُسِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا (6)فحذف لدفعناه وهو مراد في الكلام إذ كان مفهوما عند السامع مراده. وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: ( أمَّن ) بتشديد الميم, بمعنى: أم من هو؟ ويقولون: إنما هي ( أمَّن ) استفهام اعترض في الكلام بعد كلام قد مضى, فجاء بأم، فعلى هذا التأويل يجب أن يكون جواب الاستفهام متروكا من أجل أنه قد جرى الخبر عن فريق الكفر, وما أعدّ له في الآخرة, ثم أتبع الخبر عن فريق الإيمان, فعلم بذلك المراد, فاستغني بمعرفة السامع بمعناه من ذكره, إذ كان معقولا أن معناه: هذا أفضل أم هذا؟.والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان قرأ بكل واحدة علماء من القرّاء مع صحة كل واحدة منهما في التأويل والإعراب, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.وقد ذكرنا اختلاف المختلفين, والصواب من القول عندنا فيما مضى قبل في معنى القانت, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر بعض أقوال أهل التأويل في ذلك في هذا الموضع, ليعلم الناظر في الكتاب اتفاق معنى ذلك في هذا الموضع وغيره, فكان بعضهم يقول: هو في هذا الموضع قراءة القارئ قائما في الصلاة.* ذكر من قال ذلك:حدثنا ابن المثنى, قال: ثنا يحيى, عن عبيد الله, أنه قال: أخبرني نافع, عن ابن عمر, أنه كان إذا سُئل عن القنوت, قال: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام, وقرأ: ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا )وقال آخرون: هو الطاعة.* ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن سعد, قال: ثني أبي, قال: ثني عمي, قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ) يعني بالقنوت: الطاعة, وذلك أنه قال: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ... إلى كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ قال: مطيعون.حدثنا محمد, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ, في قوله: ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا ) قال: القانت: المطيع.وقوله: ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) يعني: ساعات الليل.كما حدثنا بشر, قال: ثنا يزيد, قال: ثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( أمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ) أوله, وأوسطه, وآخره.حدثنا محمد بن الحسين, قال: ثنا أحمد, قال: ثنا أسباط, عن السديّ( آنَاءَ اللَّيْلِ ) قال: ساعات الليل.وقد مضى بياننا عن معنى الآناء بشواهده, وحكاية أقوال أهل التأويل فيها بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.وقوله: ( سَاجِدًا وَقَائِمًا ) يقول: يقنت ساجدا أحيانا, وأحيانا قائما, يعني: يطيع، والقنوت عندنا الطاعة, ولذلك نصب قوله: ( سَاجِدًا وَقَائِمًا ) لأن معناه: أمَّن هو يقنت آناء الليل ساجدا طورا, وقائما طورا, فهما حال من قانت.وقوله: ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) يقول: يحذر عذاب الآخرة. كما حدثنا عليّ بن الحسن الأزديّ. قال: ثنا يحيى بن اليمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد بن جُبَير, عن ابن عباس, في قوله: ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) قال: يحذر عقاب الآخرة, ويرجو رحمة ربه, يقول: ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة.وقوله: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لقومك: هل يستوي الذين يعلمون ما لهم في طاعتهم لربهم من الثواب, وما عليهم في معصيتهم إياه من التبعات, والذين لا يعلمون ذلك, فهم يخبطون في عشواء, لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا, ولا يخافون بسيئها شرا؟ يقول: ما هذان بمتساويين.وقد رُوي عن أبي جعفر محمد بن عليّ في ذلك ما حدثني محمد بن خلف, قال: ثني نصر بن مزاحم, قال: ثنا سفيان الجريري, عن سعيد بن أبي مجاهد, عن جابر, عن أبي جعفر, رضوان الله عليه ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) قال: نحن الذين يعلمون, وعدونا الذين لا يعلمون.وقوله: ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ) يقول تعالى ذكره: إنما يعتبر حجج الله, فيتعظ, ويتفكر فيها, ويتدبرها أهل العقول والحجى, لا أهل الجهل والنقص في العقول.------------------------الهوامش:(5) تقدم الاستشهاد بالبيت في الجزء ( 14 : 110 ) وشرحناه شرحا مفصلا ، فراجعه ثمة . والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 284 ) وموضع الاستشهاد به في هذا الموضع أن العرب تنادي بالهمزة ، كما تنادي بيا . قال الفراء : عند قوله تعالى" أم من هو قانت آناء الليل" قرأها يحيي بن وثاب بالتخفيف . وذكر ذلك عن نافع وحمزة ، وفسروها : يريد : يا من هو قانت ، وهو وجه حسن . العرب تدعو بألف كما يدعون بيا ، فيقولون : يا زيد أقبل ، وأزيد أقبل ؛ قال الشاعر :" أبني لبيني ... البيت" وقال آخر :" أضمر بن ضمرة ... البيت" . وهو كثير في الشعر ، فيكون المعنى مردودا بالدعاء ، كالمنسوق ، لأنه ذكر الناسي الكافر ، ثم قص قصة الصالح بالنداء ، كما تقول في كلام : فلان لا يصلي ولا يصوم ، فيا من يصلي ويصوم أبشر . فهذا هو معناه . وقد تكون الألف استفهاما ، وبتأويل أم ، لأن العرب قد تضع" أم" في موضع الألف ، إذا سبقها كلام ، وقد وصفت من ذلك ما يكتفي به ، فيكون المعنى أمن هو قانت ؟ كالأول الذي ذكر بالنسيان والكفر . ومن قرأها بالتشديد ، فإنه يريد معنى الألف وهو الوجه : أن تجعل" أم" إذا كانت مردودة على معنى قد سبق ، قلتها بأم . وقد قرأها الحسن وعاصم وأبو جعفر المدني ، يريدون" أم من هو" فقد تبين في الكلام أنه مضمر قد جرى معناه في أول الكلمة ، إذ ذكر الضال ، ثم ذكر المهتدي بالاستفهام فهو دليل على أنه يريد : أهذا مثل هذا ؟ أو أهذا أفضل ؟ ومن لم يعرف مذاهب العرب ، ويتبين له المعنى في هذا وشبهه ، لم يكتف ولم يشتف . ا ه .(6) تقدم الاستشهاد بالبيت وشرحناه مفصلا في الجزء ( 12 : 18 ) فراجعه ثمة . وقد أورده الفراء في معاني القرآن (الورقة 284) بعقب كلامه الذي نقلناه عنه في الشاهد السابق على هذا ، قال : ألا ترى قول الشاعر" فأقسم لو شيء أتانا رسوله .... البيت" أن معناه : لو أتانا رسول غيرك لدفعناه ، فعلم المعنى ولم يظهر . وجرى قوله" أفمن شرح الله صدره للإسلام" على مثل هذا .
﴿ أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ﴾