﴿ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: إذا قاربن انقضاء العدة، لأنهن لو خرجن من العدة، لم يكن الزوج مخيرًا بين الإمساك والفراق. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي: على وجه المعاشرة [الحسنة]، والصحبة الجميلة، لا على وجه الضرار، وإرادة الشر والحبس، فإن إمساكها على هذا الوجه، لا يجوز، أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي: فراقًا لا محذور فيه، من غير تشاتم ولا تخاصم، ولا قهر لها على أخذ شيء من مالها. وَأَشْهِدُوا على طلاقها ورجعتها ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: رجلين مسلمين عدلين، لأن في الإشهاد المذكور، سدًا لباب المخاصمة، وكتمان كل منهما ما يلزمه بيانه. وَأَقِيمُوا أيها الشهداء الشَّهَادَةَ لِلَّهِ أي: ائتوا بها على وجهها، من غير زيادة ولا نقص، واقصدوا بإقامتها وجه الله وحده ولا تراعوا بها قريبًا لقرابته، ولا صاحبًا لمحبته، ذَلِكُمْ الذي ذكرنا لكم من الأحكام والحدود يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن من يؤمن بالله، واليوم الآخر، يوجب له ذلك أن يتعظ بمواعظ الله، وأن يقدم لآخرته من الأعمال الصالحة، ما يتمكن منها، بخلاف من ترحل الإيمان عن قلبه، فإنه لا يبالي بما أقدم عليه من الشر، ولا يعظم مواعظ الله لعدم الموجب لذلك، ولما كان الطلاق قد يوقع في الضيق والكرب والغم، أمر تعالى بتقواه، وأن من اتقاه في الطلاق وغيره فإن الله يجعل له فرجًا ومخرجًا.فإذا أراد العبد الطلاق، ففعله على الوجه الشرعي، بأن أوقعه طلقة واحدة، في غير حيض ولا طهر قد وطئ فيه فإنه لا يضيق عليه الأمر، بل جعل الله له فرجًا وسعة يتمكن بها من مراجعة النكاح إذا ندم على الطلاق، والآية، وإن كانت في سياق الطلاق والرجعة، فإن العبرة بعموم اللفظ، فكل من اتقى الله تعالى، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة.ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة، وكما أن من اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا، فمن لم يتق الله، وقع في الشدائد والآصار والأغلال، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها، واعتبر ذلك بالطلاق، فإن العبد إذا لم يتق الله فيه، بل أوقعه على الوجه المحرم، كالثلاث ونحوها، فإنه لا بد أن يندم ندامة لا يتمكن من استدراكها والخروج منها.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم بين- سبحانه- حكما يتعلق بما بين الزوجين من حقوق فقال- تعالى-: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ...والفاء في قوله فَإِذا بَلَغْنَ ... للتفريع على ما تقدم من أحكام تتعلق بالعدة.والمراد ببلوغ أجلهن، مقاربة نهاية مدة العدة بقرينة ما بعده، لأن الرجل لا يؤمر بإمساك زوجه بعد انقضاء عدتها، لأن الإمساك يكون قبل انقضائها.فالكلام من باب المجاز، لمشابهة مقاربة الشيء، بالحصول فيه، والتلبس به.والمراد بالإمساك المراجعة وعدم السير في طريق مفارقتها.والمعروف: ما أمر به الشرع من حسن المعاملة بين الزوجين، وحرص كل واحد منهما على أداء ما عليه لصاحبه من حقوق.والمعنى: لقد بينت لكم جانبا من الأحكام التي تتعلق بعدة النساء، فإذا قاربن وشارفن آخر عدتهن، فأمسكوهن وراجعوهن بحسن معاشرة، أو فارقوهن بمعروف بأن تعطوهن حقوقهن كاملة غير منقوصة، بأن تكفوا ألسنتكم عن ذكرهن بسوء..والأمر في قوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ، وفارِقُوهُنَّ للإباحة، و «أو» للتخيير.والتعبير بالإمساك للإشعار بأن المطلقة طلاقا رجعيا لها حكم الزوجة، ما عدا الاستمتاع بها، فعليه أن يستمسك بها، ولا يتسرع في فراقها، فهي ما زالت في عصمته.وقدم- سبحانه- الإمساك على الفراق، للإشارة إلى أنه هو الأولى رعاية لحق الزوجية، وإبقاء للمودة والرحمة.وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ....ثم قال- سبحانه-: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أى: وأشهدوا عند المراجعة لأزواجكم وعند مفارقتكم لهن رجلين تتوفر فيهما العدالة والاستقامة لان الإشهاد يقطع التنازع، ويدفع الريبة، وينفى التهمة.والأمر في قوله: وَأَشْهِدُوا للندب والاستحباب في حالتي المراجعة والمفارقة، فهو كقوله- تعالى-: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وهذا رأى جمهور العلماء.قال الآلوسى: قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أى: عند الرجعة إن اخترتموها، أو الفرقة إن اخترتموها، تبريا عن الريبة، وقطعا للنزاع. وهذا أمر ندب كما في قوله- تعالى-: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ.وقال الشافعى في القديم: إنه للوجوب في الرجعة. وزعم الطبرسي أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق، وأنه مروى عن أثمة أهل البيت، وأنه للوجوب، وشرط في صحة الطلاق.. .وقوله: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ معطوف على ما قبله، والخطاب لكل من تتعلق به الشهادة.والمراد بإقامة الشهادة: أداؤها بالعدل والصدق.أى: وعليكم- أيها المؤمنون- عند أدائكم للشهادة، أن تؤدوها بالعدل والأمانة، وأن تجعلوها خالصة لوجه الله- تعالى- وامتثالا لأمره.والجملة الكريمة دليل على أن أداء الشهادة على وجهها الصحيح عند الحكام وغيرهم، أمر واجب، لأن الشهادة هنا اسم للجنس، ولأن الله- تعالى- يقول في آية أخرى: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ....والإشارة في قوله- سبحانه-: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تعود إلى جميع ما تقدم من أحكام، كإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيت الزوجية حتى تنتهي عدتها، والحث على أداء الشهادة بالحق والعدل.والوعظ معناه: التحذير مما يؤذى بطريقة تؤثر في القلوب، وتهدى النفوس إلى الرشد.أى: ذلك الذي ذكرناه لكم من أحكام إنما يتأثر به، ويعمل بمقتضاه الذين يؤمنون بالله- تعالى- وباليوم الآخر إيمانا حقا.وخص- سبحانه- الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بهذه الأحكام، وهم المنفذون لها تنفيذا صحيحا.ثم بشر- سبحانه- عباده الذين يتقونه ويراقبونه ببشارات متعددة فقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.والجملة الكريمة اعتراض بين قوله- تعالى-: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ وبين قوله- سبحانه- بعد ذلك: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ.وجيء بهذا الاعتراض بين هذه الأحكام لحمل النفوس على تقبل تشريعاته- تعالى- وآدابه، ولحض الزوجين على مراقبته- سبحانه- وتقواه.أى: ومن يتق الله- تعالى- في كل أقواله وأفعاله وتصرفاته. يجعل له- سبحانه- مخرجا من هموم الدنيا وضوائقها ومتاعبها، ومن شدائد الموت وغمراته، ومن أهوال الآخرة وعذابها، ويرزقه الفوز بخير الدارين، من طريق لا تخطر له على بال، ولا ترد له على خاطر، فإن أبواب رزقه- سبحانه- لا يعلمها أحد إلا هو- عز وجل-.وفي هذه الجملة الكريمة ما فيها من البشارة للمؤمن، حتى يثبت فؤاده، ويستقيم قلبه، ويحرص على طاعة الله- تعالى- في كل أحواله.قال القرطبي: قال أبو ذر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم، ثم تلا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.وعن جابر بن عبد الله قال: نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعى، أسر المشركون ابنا له، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك. فقال له صلى الله عليه وسلم: «اتق الله واصبر، وآمرك وزوجك أن تستكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله» .فعاد إلى بيته وقال لامرأته: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنى وإياك أن نستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا، فجعلا يقولان ذلك، فغفل العدو عن ابنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه عوف، فنزلت الآية ... .
﴿ تفسير البغوي ﴾
( فإذا بلغن أجلهن ) أي قربن من انقضاء عدتهن ( فأمسكوهن ) أي راجعوهن ( بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فتبين منكم ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) على الرجعة والفراق . أمر بالإشهاد على الرجعة وعلى الطلاق . ( وأقيموا الشهادة ) أيها الشهود ( لله )( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) قال عكرمة والشعبي والضحاك : ومن يتق الله فيطلق للسنة يجعل له مخرجا إلى الرجعة .وأكثر المفسرين قالوا : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، أسر المشركون ابنا له يسمى مالكا فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أسر العدو ابني ، وشكا أيضا إليه الفاقة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : اتق الله واصبر وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ففعل الرجل [ ذلك ] فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو ، فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه .وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : فتغفل عنه العدو ، فاستاق غنمهم ، فجاء بها إلى أبيه ، وهي أربعة آلاف شاة . فنزلت : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " في ابنه .