﴿ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
وَالَّذِينَ صَبَرُوا علىالمأمورات بالامتثال، وعن المنهيات بالانكفاف عنها والبعد منها، وعلى أقدار الله المؤلمة بعدم تسخطها.ولكن بشرط أن يكون ذلك الصبر ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ لا لغير ذلك من المقاصد والأغراض الفاسدة فإن هذا هو الصبر النافع الذي يحبس به العبد نفسه، طلبا لمرضاة ربه، ورجاء للقرب منه، والحظوة بثوابه، وهو الصبر الذي من خصائص أهل الإيمان، وأما الصبر المشترك الذي غايته التجلد ومنتهاه الفخر، فهذا يصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فليس هو الممدوح على الحقيقة. وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ بأركانها وشروطها ومكملاتها ظاهرا وباطنا، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً دخل في ذلك النفقات الواجبة كالزكوات والكفارات والنفقات المستحبة وأنهم ينفقون حيث دعت الحاجة إلى النفقة، سرا وعلانية، وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي: من أساء إليهم بقول أو فعل، لم يقابلوه بفعله، بل قابلوه بالإحسان إليه.فيعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويصلون من قطعهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، وإذا كانوا يقابلون المسيء بالإحسان، فما ظنك بغير المسيء؟! أُولَئِكَ الذين وصفت صفاتهم الجليلة ومناقبهم الجميلة لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم أضاف- سبحانه- إلى الصفات السابقة لأولى الألباب صفات أخرى حميدة فقال:وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أى: أن من صفاتهم أنهم صبروا على طاعة الله، وصبروا عن معصيته، وصبروا على المصائب وآلامها، صبرا غايته رضا ربهم وخالقهم، لا رضا أحد سواه.أى: أن صبرهم في كل مجال يحمد فيه الصبر لم يكن من أجل الرياء أو المباهاة أو المجاملة أو غير ذلك، وإنما كان صبرهم من أجل رضا الله- تعالى- وطلب ثوابه.وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله: «والذين صبروا» فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف «ابتغاء وجه ربهم» لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل. ولا لئلا يعاب بالجزع، ولئلا يشمت به الأعداء، كقوله:وتجلدي للشامتين أريهم ... أنى لريب الدهر لا أتزعزعولا لأنه لا طائل تحت الهلع، ولا مرد فيه للفائت.وكل عمل له وجوه يعمل عليها، فعلى المؤمن أن ينوى منها ما به كان حسنا عند الله- تعالى- وإلا لم يستحق به ثوابا وكان فعلا كلا فعل، .«وأقاموا الصلاة» أى: أدوها في أوقاتها كاملة الأركان والسنن والأذكار، بخشوع وإخلاص. «وأنفقوا» بسخاء وطيب نفس «مما رزقناهم» أى: مما أعطيناهم من عطائنا الواسع العميم. «سرا وعلانية» أى: ينفقون مما رزقناهم سرا. حيث يحسن السر، كإعطاء من لم يتعود الأخذ من غيره، وينفقون «علانية» حيث تحسن العلانية، كأن ينفقوا بسخاء في مجال التنافس في الخير، ليقتدى بهم غيرهم «ويدرءون بالحسنة السيئة» ، والدرء:الدفع والطرد. يقال: درأه درءا، إذا دفعه.أى: أن من صفات أولى الألباب- أيضا- أنهم يدفعون بالعمل الصالح العمل السيئ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» أو أنهم يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه، أو بالعفو عنه، متى كان هذا الإحسان أو العفو لا يؤدى إلى مفسدة.قال صاحب الظلال ما ملخصه: «وفي الآية إشارة خفية إلى مقابلة السيئة بالحسنة، عند ما يكون في هذا درء السيئة ودفعها لا إطماعها واستعلاؤها، فأما حين تحتاج السيئة إلى القمع، ويحتاج الشر إلى الدفع، فلا مكان لمقابلتهما بالحسنة، لئلا ينتفش الشر ويتجرأ ويستعلى.ودرء السيئة بالحسنة يكون غالبا في المعاملة الشخصية بين المتماثلين فأما في دين الله فلا.إن المستعلى الغاشم لا يجدي معه إلا الدفع الصارم، والمفسدون في الأرض لا يجدي معهم إلا الأخذ الحاسم، والتوجيهات القرآنية متروكة لتدبر المواقف، واستشارة الألباب، والتصرف بما يرجح أنه الخير والصواب» .وجملة أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ بيان الجزاء الحسن، الذي أعده الله- تعالى- لهؤلاء الأخيار.والعقبى: مصدر كالعاقبة، وهي الشيء الذي يقع عقب شيء آخر.والمراد بالدار: الدنيا. وعقباها الجنة. وقيل المراد بالدار: الدار الآخرة. وعقباها الجنة للطائعين، والنار للعاصين.أى: أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة، لهم العاقبة الحسنة وهي الجنة. والجملة الكريمة خبر عن «الذين يوفون بعهد الله....» وما عطف عليها.
﴿ تفسير البغوي ﴾
( والذين صبروا ) على طاعة الله ، وقال ابن عباس : على أمر الله عز وجل . وقال عطاء : على المصائب والنوائب . وقيل : عن الشهوات . وقيل : عن المعاصي .( ابتغاء وجه ربهم ) طلب تعظيمه أن يخالفوه .( وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ) يعني يؤدون الزكاة .( ويدرءون بالحسنة السيئة ) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يدفعون بالصالح من العمل السيئ من العمل ، وهو معنى قوله : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ( هود - 114 ) . وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها ، السر بالسر والعلانية بالعلانية " .أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن ابن لهيعة ، حدثني يزيد بن أبي حبيب ، حدثنا أبو الخير ، أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ، ثم عمل حسنة ، فانفكت عنه حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت أخرى ، حتى يخرج إلى الأرض " .وقال ابن كيسان : معنى الآية : يدفعون الذنب بالتوبة .وقيل : لا يكافئون الشر بالشر ، ولكن يدفعون الشر بالخير .وقال القتيبي : معناه : إذا سفه عليهم حلموا ، فالسفه : السيئة ، والحلم : الحسنة .وقال قتادة : ردوا عليهم معروفا ، نظيره قوله تعالى : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ) ( الفرقان - 63 ) .وقال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا ظلموا عفوا ، وإذا قطعوا وصلوا .قال عبد الله بن المبارك : هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة .( أولئك لهم عقبى الدار ) يعني الجنة ، أي : عاقبتهم دار الثواب . ثم بين ذلك فقال : ( جنات عدن ) .