﴿ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة، وحسن تربيته لعباده المؤمنين وسهولة دينه فقال: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أي: جميع ما تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل، والحلال والحرام، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم، في سيرهم الحميدة، وأفعالهم السديدة، وشمائلهم الكاملة، وتوفيقهم التام. فلذلك نفذ ما أراده، ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم، وهداكم هداية عظيمة في العلم والعمل. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي: يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى تمكنوا من الوقوف على ما حده الله، والاكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده. ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم الإنابة إليه، والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له. فله الحمد والشكر على ذلك. وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي: كامل الحكمة، فمن علمه أن علمكم ما لم تكونوا تعلمون، ومنها هذه الأشياء والحدود. ومن حكمته أنه يتوب على من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه، ويخذل من اقتضت حكمته وعدله من لا يصلح للتوبة.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وقوله- تعالى-: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ استئناف مقرر لما سبق من الأحكام، وقد ساقه- سبحانه- لإيناس قلوب المؤمنين حتى يمتثلوا عن اقتناع وتسليم لما شرعه الله لهم من أحكام.قال الآلوسى: ومثل هذا التركيب- قوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. وقع في كلام العرب قديما وخرجه النحاة على مذاهب:فقيل مفعول يُرِيدُ محذوف أى: يريد الله تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه. واللام للتعليل.... ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين.فتعلق الإرادة غير التبيين، وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف.وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك، كما قيل به في قولهم:«تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» أى إرادتى كائنة للتبيين. وفيه تكلف.وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار أن، وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم أى: يريد الله البيان لكم «1» .والمعنى: يريد الله- تعالى- بما شرع لكم من أحكام، وبما ذكر من محرمات ومباحات أن يبين لكم ما فيه خيركم وصلاحكم وسعادتكم، وأن يميز لكم بين الحلال والحرام والحسن والقبيح.وقوله: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ معطوف على ما قبله.والسنن: جمع سنة وهي الطريقة وفي أكثر استعمالها تكون للطريقة المثلى الهادية إلى الحق.أى: ويهديكم مناهج وطرائق من تقدمكم من الأنبياء والصالحين، لتقتفوا آثارهم وتسلكوا سبيلهم.وليس المراد أن جميع ما شرعه الله من حلال أو من حرام كان مشروعا بعينه للأمم السابقة.بل المراد أن الله كما قد شرع للأمم السابقة من الأحكام ما هم في حاجة إليه وما اقتضته مصالحهم، فكذلك قد شرع لنا ما نحن في حاجة إليه وما يحقق مصالحنا، فإن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في ذاتها إلا أنها متفقة في باب المصالح.وقوله: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ معطوف على ما قبله.والتوبة معناها: ترك الذنب مع الندم عليه والعزم على عدم العود، وذلك مستحيل في حقه- سبحانه- لذا قالوا: المراد بها هنا المغفرة لتسببها عنها. أو المراد بها قبول التوبة.أى: ويقبل توبتكم متى رجعتم إليه بصدق وإخلاص، فقد تكفل- سبحانه- لعباده أن يغفر لهم خطاياهم متى تابوا إليه توبة صادقة نصوحا وفي التعبير عن قبول التوبة بقوله:وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ إشارة إلى ما يتضمنه معنى قبول التوبة من ستر للذنوب، ومنع لكشفها، فهي غطاء على المعاصي يمنعها من الظهور حتى يذهب تأثيرها في النفس:فالآية الكريمة تحريض على التوبة، لأن الوعد بقبولها متى كانت صادقة يغرى الناس. بطرق بابها وبالإكثار منها..وقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أى والله- تعالى- ذو علم شامل لجميع الأشياء، فيعلم أن ما شرع لكم من أحكام مناسب لكم، وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم، ومتى تكون توبة أحدكم صادقة ومتى لا تكون كذلك حَكِيمٌ يضع الأمور في مواضعها. فيبين لمن يشاء، ويهدى من يشاء، ويتوب على من يشاء.فأنت ترى أن هذه الآية قد بينت جانبا من مظاهر فضل الله ورحمته بعباده، حيث كشفت للناس أن الله- تعالى- يريد بإنزاله لهذا القرآن أن يبين لهم التكاليف التي كلفهم بها ليعرفوا الخير من الشر، وأن يرشدهم إلى سبيل من تقدمهم من أهل الحق، وأن يغفر لهم ذنوبهم متى أخلصوا له التوبة.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( يريد الله ليبين لكم ) أي : أن يبين لكم ، كقوله تعالى : " وأمرت لأعدل بينكم " ( الشورى - 15 ) أي : أن أعدل ، وقوله : " وأمرنا لنسلم لرب العالمين " ( الأنعام - 71 ) ، وقال في موضع آخر " وأمرت أن أسلم " ( غافر - 66 ) .ومعنى الآية : يريد الله أن يبين لكم ، أي : يوضح لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم ، قال عطاء : يبين لكم ما يقربكم منه ، قال الكلبي : يبين لكم أن الصبر عن نكاح الإماء خير لكم ، ( ويهديكم ) ويرشدكم ، ( سنن ) شرائع ، ( الذين من قبلكم ) في تحريم الأمهات والبنات والأخوات ، فإنها كانت محرمة على من قبلكم .وقيل : ويهديكم الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام ، ( ويتوب عليكم ) ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ، وقيل : يرجع بكم من المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته ، وقيل : يوفقكم للتوبة ( والله عليم ) بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم ، ( حكيم ) فيما دبر من أمورهم .