﴿ يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا أي: كاملا موفرا لم ينقص مثقال ذرة، كما قال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره والخير: اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من الأعمال الصالحة صغيرها وكبيرها، كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله من الأعمال السيئة صغيرها وكبيرها وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا أي: مسافة بعيدة، لعظم أسفها وشدة حزنها، فليحذر العبد من أعمال السوء التي لا بد أن يحزن عليها أشد الحزن، وليتركها وقت الإمكان قبل أن يقول يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانًا خليلا حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين فوالله لترك كل شهوة ولذة وان عسر تركها على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك الفضائح، ولكن العبد من ظلمه وجهله لا ينظر إلا الأمر الحاضر، فليس له عقل كامل يلحظ به عواقب الأمور فيقدم على ما ينفعه عاجلا وآجلا، ويحجم عن ما يضره عاجلا وآجلا، ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا ورحمة لئلا يطول علينا الأمد فتقسو قلوبنا، وليجمع لنا بين الترغيب الموجب للرجاء والعمل الصالح، والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب، فقال ويحذركم الله نفسه والله رءوفٌ بالعباد فنسأله أن يمن علينا بالحذر منه على الدوام، حتى لا نفعل ما يسخطه ويغضبه.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم كرر- سبحانه- التحذير من الحساب يوم القيامة وما يقع فيه من أهوال ورغب المؤمنين في العمل الصالح فقال: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً.قال الآلوسى: الأمد: غاية الشيء ومنتهاه والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة والأمد مدة لها حد مجهول، والمراد هنا الغاية الطويلة، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة، ولعله الأظهر، فالتمنى هنا من قبيل التمني في قوله- تعالى- يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ .والمعنى: راقبوا ربكم أيها المؤمنون. وتزودوا من العمل الصالح واذكروا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ في الدنيا مِنْ خَيْرٍ وإن كان مثقال ذرة مُحْضَراً لديها مشاهدا في الصحف، حتى لكأنه قد أحضر من الدنيا إلى الآخرة فيرى رأى العين وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تراه أيضا ظاهرا ثابتا مسجلا عليها، وتتمنى لو أن بينها وبين هذا العمل السيئ زمنا طويلا، ومسافة بعيدة وذلك لأن الإنسان يتمنى دائما أن يكون بعيدا بعدا شاسعا عن الشيء المخيف المؤلم خصوصا في هذا اليوم العصيب وهو يوم القيامة.وقوله يَوْمَ متعلق بمحذوف تقديره اذكروا، وهو مفعول به لهذا المحذوف. و «تجد» يجوز أن يكون متعديا لواحد فيكون بمعنى تصيب وتصادف، ويكون «محضرا» على هذا منصوبا على الحال. قال الجمل: وهذا هو الظاهر. ويجوز أن يكون بمعنى تعلم فيتعدى لاثنين أولهما ما عَمِلَتْ والثاني مُحْضَراً .وقوله وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ معطوف على قوله ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ.ويرى بعضهم أن «ما» في قوله وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ مبتدأ، وخبرها جملة تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً فيكون المعنى: ما عملت من سوء تتمنى كل نفس أن يكون بينها وبينه أمدا بعيدا.أتى- سبحانه- بقوله مُحْضَراً في جانب الخير فقط مع أن عمل السوء أيضا يكون محضرا للإشعار بكون عمل الخير هو المراد بالذات. وهو الذي يتمناه الإنسان ويرجو حضوره في هذا لما يترتب عليه من ثواب وأما عمل الشر فتتمنى كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره بسبب ما يترتب عليه من عقاب.وقوله- سبحانه- وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ تكرير للتحذير الأول الذي جاء في قوله- تعالى-لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ والسر في هذا التكرير زيادة التحذير من عقاب الله وانتقامه، فإن تكرار التحذير من شأنه أن يغرس في القلوب التذكر والاعتبار والوجل.وقيل: إن التحذير الأول ذكر للنهى عن موالاة الكافرين. والذي هنا ذكر للحث على عمل الخير والتنفير من عمل الشر.ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ومن مظاهر رأفته ورحمته أنه حذر عباده قبل أن يعاقبهم، وأنه يعفو عن كثير من ذنوب عباده، وأنه فتح لهم باب التوبة حتى يقلعوا عن خطاياهم. إلى غير ذلك من مظاهر رأفته ورحمته.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( يوم تجد كل نفس ) نصب يوما بنزع حرف الصفة أي في يوم ، وقيل : بإضمار فعل أي : اذكروا واتقوا يوم تجد كل نفس ( ما عملت من خير محضرا ) لم يبخس منه شيء كما قال الله تعالى : " ووجدوا ما عملوا حاضرا " ( 49 - الكهف ( وما عملت من سوء ) جعله بعضهم خبرا في موضع النصب أي تجد محضرا ما عملت من الخير [ والشر فتسر بما عملت من الخير ] وجعله بعضهم خبرا مستأنفا ، دليل هذا التأويل : قراءة ابن مسعود رضي الله عنهما " وما عملت من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا "قوله تعالى : ( تود لو أن بينها ) أي بين النفس ( وبينه ) يعني وبين السوء ( أمدا بعيدا ) قال السدي : مكانا بعيدا ، وقال مقاتل : كما بين المشرق والمغرب ، والأمد الأجل والغاية التي ينتهى إليها ، وقال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبدا ، وقيل يود أنه لم يعمله ( ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد ) .