﴿ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
يخبر تعالى عن جهل المشركين، وشدة ضلالهم، أنهم يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ أي: يميلونها لِيَسْتَخْفُوا من الله، فتقع صدورهم حاجبة لعلم الله بأحوالهم، وبصره لهيئاتهم.قال تعالى -مبينا خطأهم في هذا الظن- أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ أي: يتغطون بها، يعلمهم في تلك الحال، التي هي من أخفى الأشياء.بل يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ من الأقوال والأفعال وَمَا يُعْلِنُونَ منها، بل ما هو أبلغ من ذلك، وهو: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها من الإرادات، والوساوس، والأفكار، التي لم ينطقوا بها، سرا ولا جهرا، فكيف تخفى عليه حالكم، إذا ثنيتم صدوركم لتستخفوا منه.ويحتمل أن المعنى في هذا أن الله يذكر إعراض المكذبين للرسول الغافلين عن دعوته، أنهم -من شدة إعراضهم- يثنون صدورهم، أي: يحدودبون حين يرون الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يراهم ويسمعهم دعوته، ويعظهم بما ينفعهم، فهل فوق هذا الإعراض شيء؟"ثم توعدهم بعلمه تعالى بجميع أحوالهم، وأنهم لا يخفون عليه، وسيجازيهم بصنيعهم.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم حكى- سبحانه- جانبا من جهالات المنحرفين عن الحق، ومن أوهامهم الباطلة، فقال- تعالى-:أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.وقوله: يَثْنُونَ من الثنى بمعنى الطى والستر. يقال: ثنيت الثوب إذا طويته على ما فيه من الأشياء المستورة.وثنى الصدور: إمالتها وطأطأتها وحنيها بحيث تكون القامة غير مستقيمة. والاستخفاء:محاولة الاختفاء عن الأعين، ومنه قوله- تعالى- يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ...وقوله: يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ.. أى: يتدثرون ويتغطون بها، مبالغة في الاستخفاء عن الأعين. فالسين والتاء فيه للتأكيد، كما في قوله- تعالى- وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ ... أى: جعلوها كالغشاء عليهم.وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية روايات منها: أنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته، ويرخى ستره، ويحنى ظهره، ويتغشى بثوبه ثم يقول: هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت هذه الآية.وقيل: نزلت في المنافقين، كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره. وتغشى بثوبه لئلا يراه.وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق، وكان رجلا حلو المنطق، حسن السياق للحديث، يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة، ويضمر في قلبه ما يضادها..» .وعلى أية حال فإن الآية الكريمة تصور تصويرا بديعا جهالات بعض الضالين بعلم الله- تعالى- المحيط بكل شيء، كما تصور تصويرا دقيقا أوضاعهم الحسية حين يأوون إلى فراشهم، وحين يلتقون بالنبي صلى الله عليه وسلم.والضمير المجرور في قوله مِنْهُ يعود إلى الله- تعالى- وعليه يكون المعنى ألا إن هؤلاء المشركين يلوون صدورهم عن الحق الذي جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم توهما منهم أن فعلهم هذا يخفى على الله- تعالى-.ومنهم من يرى أن الضمير في قوله مِنْهُ يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه يكون المعنى:ألا إن هؤلاء المشركين يعرضون عن لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ويطأطئون رءوسهم عند رؤيته، ليستخفوا منه، حتى لا يؤثر فيهم بسحر بيانه.ومع أن كلا القولين له وجاهته وله من سبب النزول ما يؤيده، إلا أننا نميل إلى كون الضمير يعود على الله- تعالى- لأن قوله- تعالى- بعد ذلك يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ يؤيد عودة الضمير إليه- سبحانه- إذ علم السر والعلن مرده إليه وحده.وافتتحت الآية الكريمة بحرف التنبيه أَلا وجيء به مرة أخرى في قوله أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ.. للاهتمام بمضمون الكلام، وللفت أنظار السامعين إلى ما بلغه هؤلاء الضالون من جهل وانطماس بصيرة.ثم بين- سبحانه- أنه لا يخفى عليه شيء من أحوالهم فقال: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ، يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.أى: ألا يعلم هؤلاء الجاهلون أنهم حين يأوون إلى فراشهم، ويتدثرون بثيابهم، يعلم الله- تعالى- ما يسرونه في قلوبهم من أفكار، وما يعلنونه بأفواههم من أقوال، لأنه- سبحانه- محيط بما تضمره النفوس من خفايا، وما يدور بها من أسرار.وجملة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليلية لتأكيد ما قبلها من علمه- سبحانه- بالسر والعلن. والمراد بذات الصدور: الأسرار المستكنة فيها.هذا، وقد ذكر ابن كثير رواية أخرى في سبب نزول هذه الآية فقال: قال ابن عباس:كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم، فأنزل الله هذه الآية رواه البخاري من حديث ابن جريج.وفي لفظ آخر له قال ابن عباس: أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم..» .وظاهر من هذا الكلام المنقول عن ابن عباس أنها نزلت في شأن جماعة من المسلمين هذا شأنهم، ولعل مراده أن الآية تنطبق على صنيعهم وليس فعلهم هو سبب نزولها، لأن الآية مسوقة للتوبيخ والذم، والذين يستحقون ذلك هم أولئك المشركون وأشباههم الذين أعرضوا عن الحق، وجهلوا صفات الله- تعالى-.قال الجمل بعد أن ذكر قول ابن عباس: وتنزيل الآية على هذا القول بعيد جدا، لأن الاستحياء من الجماع وقضاء الحاجة في حال كشف العورة إلى جهة السماء، أمر مستحسن شرعا، فكيف يلام عليه فاعله ويذم بمقتضى سياق الآية» .وإذا فالذي يستدعيه السياق ويقتضيه ربط الآيات، كون الآية في ذم المشركين ومن على شاكلتهم من المنحرفين عن الطريق المستقيم.ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال قدرته، وسابغ فضله، وشمول علمه فقال- تعالى-:
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى : ( ألا إنهم يثنون صدورهم ) قال ابن عباس : نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب ، وينطوي بقلبه على ما يكره .قوله : " يثنون صدورهم " أي : يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة .قال عبد الله بن شداد : نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره ، وطأطأ رأسه ، وغطى وجهه كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة : كانوا يحنون صدورهم كي لا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره .وقيل : كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه . ويقول : هل يعلم الله ما في قلبي .وقال السدي : يثنون أي : يعرضون بقلوبهم ، من قولهم : ثنيت عناني . وقيل : يعطفون ، ومنه : ثني الثوب .وقرأ ابن عباس : " يثنوني " على وزن " يحلولي " جعل الفعل للمصدر ، ومعناه المبالغة في الثني .( ليستخفوا منه ) أي : من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال مجاهد : ليستخفوا من الله إن استطاعوا ، ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) يغطون رؤوسهم بثيابهم ، ( يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ) قال الأزهري : معنى الآية من أولها إلى آخرها : إن الذين أضمروا عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم .أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا الحسن بن محمد بن صباح ، حدثنا حجاج قال : قال ابن جريج أخبرني محمد بن عباد بن جعفر أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ : ( ألا إنهم يثنون صدورهم ) فقال : سألته عنها قال : كان أناس يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم .