أي: فمن جادلك وحاجك في عيسى عليه السلام وزعم أنه فوق منزلة العبودية، بل رفعه فوق منزلته من بعد ما جاءك من العلم بأنه عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الأدلة الدالة على أنه عبد أنعم الله عليه، دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني، فلم يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ولا يستفيدها هو، لأن الحق قد تبين، فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله، قصده اتباع هواه، لا اتباع ما أنزل الله، فهذا ليس فيه حيلة، فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته وملاعنته، فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب من الفريقين، هو وأحب الناس إليه من الأولاد والأبناء والنساء، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا، وعلموا أنهم إن لاعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولادهم فلم يجدوا أهلا ولا مالا وعوجلوا بالعقوبة، فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلانه، وهذا غاية الفساد والعناد، فلهذا قال تعالى فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
ثم ختم- سبحانه- تلك المحاجة بقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ.أى فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات والحجج الواضحات التي أخبرناك بها وقصصناها عليك، فأنذرهم بسوء العاقبة، وأخبرهم أن الله- تعالى- عليم بهم، وبما يقولونه ويفعلونه من فساد في الأرض، وسيعاقبهم على ذلك العقاب الأليم.فقوله فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قائم مقام جواب الشرط، أى فإن تولوا فأخبرهم بأنهم مفسدون وأن لهم سوء العقبى لأن الله عليم بإفسادهم ولن يتركهم بدون عقوبة.وهذه الجملة الكريمة تتضمن في ذاتها تهديدا شديدا لهؤلاء المجادلين بالباطل في شأن عيسى- عليه السّلام- ولكل من أعرض عن الحق الذي جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن الله- تعالى- ليس غافلا عن إفساد المفسدين، وإنما يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد بينت بأسلوب معجز حكيم جانبا من قصة آل عمران فحدثتنا عما كان من امرأته أم مريم، وما قالته عند ما حملت بها، وما قالته بعد ولادتها، وما أكرم الله به مريم من رعايتها بالتربية الحسنة وبالرزق الحسن، ثم ما كان من شأن زكريا وتضرعه إلى الله أن يهبه الذرية الصالحة واستجابة الله له وتبشيره بولادة يحيى، ثم ما كان من شأن مريم وتبشيرها باصطفاء الله لها وأمرها بالمداومة على طاعته، ثم تبشيرها بعيسى وتعجبها لذلك والرد عليها بما يزيل هذا العجب، ثم ما كان من شأن عيسى- عليه السّلام- وما وصفه به من صفات كريمة، وما منحه من معجزات باهرة تشهد بصدقه في رسالته، مما جعل الحواريين يؤمنون به، أما الأكثرون من بنى إسرائيل فقد كفروا به ودبروا له المكايد فأنجاه الله من مكرهم ورفعه إليه وطهره منهم.ثم بين القرآن أن عيسى عبد الله ورسوله، وأن هذا هو الحق، وقد تحدى الرسول صلّى الله عليه وسلّم كل من نازعه في ذلك بالمباهلة ولكن المجادلين نكصوا على أعقابهم، فثبت صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عن ربه.وبذلك يكون القرآن قد بين الحق في شأن عيسى- عليه السّلام- بيانا يهدى القلوب ويقنع العقول ويحمل النفوس على التدبر والاعتبار، وإخلاص العبادة الله رب العالمين.ثم وجه القرآن بعد ذلك نداء عاما إلى أهل الكتاب دعاهم فيه- في بضع آيات متوالية- إلى عبادة الله وحده، وإلى ترك المحاجة الباطلة في شأن الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وإلى الإقلاع عن الكفر بآيات الله وعن تلبيس الحق بالباطل، وعن كتمان الحق مع علمهم بأنه حق..استمع إلى القرآن وهو يسوق هذه النداءات داعيا أهل الكتاب إلى كلمة الحق فيقول:
﴿ تفسير البغوي ﴾
( فإن تولوا ) أعرضوا عن الإيمان ( فإن الله عليم بالمفسدين ) الذين يعبدون غير الله ، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله