أباح الله لكم في ليالي شهر رمضان جماعَ نسائكم، هنَّ ستر وحفظ لكم، وأنتم ستر وحفظ لهن. علم الله أنكم كنتم تخونون أنفسكم؛ بمخالفة ما حرَّمه الله عليكم من مجامعة النساء بعد العشاء في ليالي الصيام -وكان ذلك في أول الإسلام-، فتاب الله عليكم ووسَّع لكم في الأمر، فالآن جامعوهن، واطلبوا ما قدَّره الله لكم من الأولاد، وكلوا واشربوا حتى يتبَيَّن ضياء الصباح من سواد الليل، بظهور الفجر الصادق، ثم أتموا الصيام بالإمساك عن المفطرات إلى دخول الليل بغروب الشمس. ولا تجامعوا نساءكم أو تتعاطوا ما يفضي إلى جماعهن إذا كنتم معتكفين في المساجد؛ لأن هذا يفسد الاعتكاف (وهو الإقامة في المسجد مدة معلومة بنيَّة التقرب إلى الله تعالى). تلك الأحكام التي شرعها الله لكم هي حدوده الفاصلة بين الحلال والحرام، فلا تقربوها حتى لا تقعوا في الحرام. بمثل هذا البيان الواضح يبين الله آياته وأحكامه للناس؛ كي يتقوه ويخشَوْه.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«أُحلَّ لكم ليلة الصيام الرفث» بمعنى الإفضاء «إلى نسائكم» بالجماع، نزل نسخا لما كان في صدر الإسلام على تحريمه وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه «علم الله أنكم كنتم تختانون» تخونون «أنفسكم» بالجماع ليلة الصيام وقع ذلك لعمر وغيره واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم «فتاب عليكم» قبل توبتكم «وعفا عنكم فالآن» إذ أحل لكم «باشروهن» جامعوهن «وابتغوا» اطلبوا «ما كتب الله لكم» أي أباحه من الجماع أو قدره من الولد «وكلوا واشربوا» الليل كله «حتى يتبيَّن» يظهر «لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر» أي الصادق بيان للخيط الأبيض وبيان الأسود محذوف أي من الليل شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد «ثم أتُّموا الصيام» من الفجر «إلى الليل» أي إلى دخوله بغروب الشمس «ولا تباشروهن» أي نساءكم «وأنتم عاكفون» مقيمون بنية الاعتكاف «في المساجد» متعلق بعاكفون نهيٌ لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود «تلك» الأحكام المذكورة «حدود الله» حدَّها لعباده ليقفوا عندها «فلا تقربوها» أبلغ من لا تعتدوها المعبر به في آية أخرى «كذلك» كما بيَّن لكم ما ذكر «يُبيِّن الله آياته للناس لعلهم يتقون» محارمه.
﴿ تفسير السعدي ﴾
كان في أول فرض الصيام، يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم الأكل والشرب والجماع، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك، وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به. فتاب الله عليكم بأن وسع لكم أمرا كان - لولا توسعته - موجبا للإثم وعفا عنكم ما سلف من التخون. فالآن بعد هذه الرخصة والسعة من الله باشروهن وطأ وقبلة ولمسا وغير ذلك. وابتغوا ما كتب الله لكم أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح. ومما كتب الله لكم ليلة القدر، الموافقة لليالي صيام رمضان، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها، فاللذة مدركة، وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك. وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا في طلوع الفجر فلا بأس عليه. وفيه: دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره أخذا من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد. وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه، لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق. ثم إذا طلع الفجر أتموا الصيام أي: الإمساك عن المفطرات إلى الليل وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحته عامة لكل أحد، فإن المعتكف لا يحل له ذلك، استثناه بقوله: ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد أي: وأنتم متصفون بذلك، ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف، وهو لزوم المسجد لطاعة الله [تعالى]، وانقطاعا إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد. ويستفاد من تعريف المساجد، أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس. وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف. تلك المذكورات - وهو تحريم الأكل والشرب والجماع ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات حدود الله التي حدها لعباده، ونهاهم عنها، فقال: فلا تقربوها أبلغ من قوله: " فلا تفعلوها " لأن القربان، يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه. والعبد مأمور بترك المحرمات، والبعد منها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها، وأما الأوامر فيقول الله فيها: تلك حدود الله فلا تعتدوها فينهى عن مجاوزتها. كذلك أي: بيَّن [الله] لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين، وأوضحها لهم أكمل إيضاح. يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم على وجه الجهل بأنه محرم، ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته، لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سببا للتقوى.
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) فالرفث كناية عن الجماع قال ابن عباس : إن الله تعالى حيي كريم يكني كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء ، والدخول والرفث فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء قال أهل التفسير كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلى الليلة القابلة ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعدما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر فقام رجال واعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه : .( أحل لكم ) أي أبيح لكم ( ليلة الصيام ) أي في ليلة الصيام ( الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم ) أي سكن لكم ( وأنتم لباس لهن ) أي سكن لهن دليله قوله تعالى : " وجعل منها زوجها ليسكن إليها " ( 189 - الأعراف ) وقيل لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين إلى الآخر ، وقيل سمي كل واحد من الزوجين لباسا لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه وقال الربيع بن أنس : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن قال أبو عبيدة وغيره يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك ، وقيل اللباس اسم لما يواري الشيء فيجوز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث : من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه . . . "( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) أي تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء قال البراء : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم "( فتاب عليكم ) تجاوز عنكم ( وعفا عنكم ) محا ذنوبكم ( فالآن باشروهن ) جامعوهن حلالا سميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهم لصاحبه ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) أي فاطلبوا ما قضى الله لكم وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد قاله أكثر المفسرين قال مجاهد : ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه وقال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ وقال معاذ بن جبل : وابتغوا ما كتب الله لكم يعني ليلة القدرقوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ) نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمة وقال الكلبي : أبو قيس صرمة بن أنس بن أبي صرمة وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئا سخينا فأخذت تعمل له سخينة وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب فلما فرغت من طعامه إذ هي به قد نام وكان قد أعيا وكل ، فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله فأبى أن يأكل فأصبح صائما مجهودا فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا أبا قيس ما لك أمسيت طليحا فذكر له ما له فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ( وكلوا واشربوا ) يعني في ليالي الصوم ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) يعني بياض النهار من سواد الليل سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتدا كالخيطأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال أنزلت ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزل قوله : ( من الفجر ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعده ( من الفجر ) فعلموا إنما يعني بهما الليل والنهارأخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحجاج بن منهال أخبرنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما نزلت ( حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، فقال إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " .أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " قال كان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت واعلم أن الفجر فجران كاذب وصادق فالكاذب يطلع أولا مستطيلا كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيرا ينتشر سريعا في الأفق فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائمأخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا هناد ويوسف بن عيسى قالا أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق " .قوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطرأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان أخبرنا هشام بن عروة قال : سمعت أبي يقول سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .قوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) [ وقد نويتم الاعتكاف في المساجد وليس المراد عن مباشرتهن في المساجد لأن ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف والعكوف هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع هو الإقامة في المسجد على عبادة الله وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجدأخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده " والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي كما لا يبطل به الحج وقالت طائفة يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا كالصوم ، وأما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا يفسد به الاعتكاف لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان " .قوله تعالى : ( تلك حدود الله ) يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف حدود الله أي ما منع الله عنها قال السدي : شروط الله وقال شهر بن حوشب : فرائض الله وأصل الحد في اللغة المنع ومنه يقال للبواب حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحدود الله ما منع الناس من مخالفتها ( فلا تقربوها ) فلا تأتوها ( كذلك ) هكذا ( يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ) لكي يتقوها فينجوا من العذاب
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الدعاء ، عاد القرآن إلى الحديث عن أحكام الصيام ، وعن مظاهر رحمة الله بعباده فيما شرع لهم فقال - تعالى - :( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ . . . )روى بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية الكريمة أحاديث تفيد أن المسلمين كانوا عند ما فرض صيام شهر رمضان . إذا أفطروا يأكلون ويشربون ويقربون النساء ما لم يناموا ، فإذا ناموا حرم عليهم بعد ذلك الطعام والشراب وقربان النساء حتى يفطروا من الغد .ومن الأحاديث التي وردت في هذا المعنى ما أخرجه الإِمام أحمد وابن جرير وابن حاتم عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه . قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حمر عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فأراد امرأته فقالت إني قد نمت ، فقال ما نمت ثم واقعها ، وصنع كعب مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت .ومنها ما رواه البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإِفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمس . وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما . فلما حضر الإِفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فما رأته قالت : خيبة لك . فلما انتصف النهار غشى عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ) ففرحوا فرحاً شديداً ، ونزلت ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) .وجمهور المفسرين - كما يقول الإِمام الرازي - على أن هذه الآية من قبيل النسخ ، لأنها قد نسخت ما كان حاصلا في أول فرضية من أن الصائم إذا نام بعد فطره لا يحل له الأكل أو الشرب أو الجماع إلى أن يفطر من الغد .ويرى بعض العلماء أن الآية ليست من قبيل النسخ وإنما هي إرشاد إلى ما شرعه الله - تعالى - لعباده خلال شهر الصوم من إباحة غشيان أزواجهن ليلا . ومن جواز الأكل والشرب ، حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وكأن الصحابة كانوا يتحرجون عن ذلك ظناً منهم أنه من تتمة الصوم ، ورأوا أن لا صبر لأنفسهم عن الأكل والشرب والجماع ليلا ، فبين الله لهم أن ذلك حلال لا حرج فيه .وأصحاب هذا الرأي يستشهدون لذلك بما رواه البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله - تعالى - ( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) فالمقصود من الآية الكريمة عند هؤلاء رفع ما توهمه بعض الصحابة من أن الأكل أو الشرب أو الجماع لا يجوز ما دامو قد ناموا بعد فطرهم؛ لأن الله - تعالى - رءوف رحيم بهم ، ولم يشرع لهم ما فيه حرج أو مشقة عليهم .وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تسوق لنا لونا من ألوان رحمة الله - تعالى - بعباده فيما شرع لهم من فرائض وأحكام .والمراد بليلة الصيام : الليلة التي يصبح فيها الإِنسان صائما دون تحديد ليلة معينة من شهر رمضان ، فالإِضافة لأدنى ملابسة .قال الجمل وقوله : ( لَيْلَةَ الصيام ) منصوب على الظرف ، وفي الناصب له ثلاثة أقوال :أحدها : وهو المشهور عند المعربين أنه أحل ، وليس بشئ ، لأن الإِحلال ثابت قبل ذلك الوقت .الثاني : أنه مقدر مدلول عليه بلفظ الرفث تقديره : أحل لكم أن ترفثوا ليلة الصيام .الثالث : أنه متعلق بالرفث وذلك على رأى من يرى الاتساع في الظرف والمجرورات " .والرفث في الأصل : الفحش من القول ، وكلام النساء حين الجماع ، كنى به عن المباشرة للزومه لها غالباً . يقال رفث في لكامه - كنصر وفرح وكرم - وأرفث ، إذا أفحش فيه . والمراد به في الآية الجماع والمباشرة .وعدي بإلى - مع أن المستعمل الشائع أن يقال : رفث بالمرأة - لتضمنه معنى الإِفضاء كما في قوله - تعالى - : ( وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ ) والمعنى : أحل الله لكم في ليالي صومكم الإِفضاء إلى نسائكم ومباشرتهن وقوله - تعالى - ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) وارد مورد المقتضى لإِباحة مباشرة النساء في ليالي الصيام ، ذلك أن كلا مع الزوجين يسكن إلى صاحبه ، ويكون من شدة القرب منه كالثوب الملابس له وكانت العرب تسمى المرأة لباساً ، وهذه حال تقوى معها الدواعي إلى المباشرة ، فمن رفقه - تعالى - بعباده أن أحلها لهم ليلة الصيام .قال الراغب : جعل اللباس كناية عن الزوج لكونه ستراً لنفسه ولزوجه أن يظهر منهما سوء ، كما أن اللباس ستر عنه أن يبدو منه السوء .وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما موقع قوله : ( هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ ) قلت : هو استئناف كالبيان لسبب الإِحلال ، وهو أنه إذا كانت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن وصعب عليكم اجتنابهن ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن " .وفي هذا التعبير القرآني ما فيه من اللطافة والأدب وسمو التصوير لما بين الرجل وزوجه من شدة الاتصال والمودة واستتار كل واحد منهما بصاحبه .وقوله - تعالى - : ( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) جملة معترضة بين قوله : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام ) وبين قوله : ( فالآن بَاشِرُوهُنَّ ) إلخ .وقد جيء بها لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم ، ولبيان مظهر من مظاهر لطف الله بهم ، ورحمته إياهم .وقوله : ( تَخْتانُونَ ) قال الراغب : الاختيان مراودة الخيانة ، ولم يقل تخونون أنفسكم لأنه لم تكن منهم الخيانة بل كان منهم الاختيان ، فإن الاختيان تحرك شهوة الإِنسان لتحري الخيانة وذلك هو المشار إليه بقوله - تعالى - : ( إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء ) والمعنى : علم الله - تعالى - أنكم كنتم تراودون أنفسكم على مباشرة نسائكم ليلا ، وعلى الأكل بعد النوم ، قبل أن يظهر الفجر الصادق ، بل إن بعضكم قد فعل ذلك ، فكان من رحمة الله بكم أن أباح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم ، وأن قبل توبتكم وعفا عنكم ، أي : محا أثر ما فعلتموه من الأكل والجماع قبل أن يأذن لكم بذلك .وجملة ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) معطوفة على محذوف ، والتقدير : قتبتم فتاب عليكم .والذين لا يرون أن الآية ناسخة لحكم سابق عبر عن وجهة نظرهم صاحب المنار فقال : وقوله - تعالى - : ( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) أي : تتنقصونها بعض ما أحل الله لها من اللذات توهما أن من قبلكم كان كذلك فيكون بمعنى التخون أي : النقص من الشيء أو معناه : تخونون أنفسكم إذ تعتقدون شيائً ثم لا تلتزمون العمل به فهو مبالغة من الخيانة التي هي مخالفة مقتضي الأدلة ولم يقل تختانون الله كما قال في آية أخرى : لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم " للإِشعار بأن الله - تعالى - لم يحرم عليهم بعد النوم في الليل ما حرمه على الصائم في النهار ، وإنما ذهب بهم اجتهادهم إلى ذلك فهم قد خانوا أنفسهم في اعتقادها ، فكانوا كمن يتغشى امرأته ظاناً أنها أجنبية ، فعصيانه بحسب اجتهاده لا بحسب الواقع ، فهم على أية حال كانوا عاصين بما فعلوا محتاجين إلى التوبة والعفو ولذلك قال ( فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ) .وقوله - تعالى - : ( فالآن بَاشِرُوهُنَّ ) الأمر فيه للإِباحة وهو مرتب على قوله : ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ ) .ولفظ ( فالآن ) يطلق حقيقة على الوقت أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك وعلى المستقبل القريب الوقوع تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا .( بَاشِرُوهُنَّ ) من المباشرة وأصلها اتصال البشرة بالبشرة ، وكنى بها القرآن عن الجماع الذي يستلزمها .وقوله - تعالى - ( وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ ) تأكيد لما قبله . والابتغاء الطلب والمعنى : لقد أبحنا لكم الإِفضاء إلى نسائكم في ليالي رمضان بعد أن كان محرماً عليكم فضلا منا ورحمة بكم فالآن باشروهن واطلبوا من وراء هذه المباشرة ما كتبه لكم الله من الذرية الصالحة ومن التعفف عن إتيان الحرام .وفي هذا إشعار بأن النكاح شرع ليبتغي به النسل حتى يتحقق ما يريده الله - تعالى - من بقاء النوع الإِنساني ، ومن صيانة المرء نفسه عن الوقوع في فاحشة الزنا .وقوله - تعالى - ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) معطوف على باشروهن .والمقصود من الخيط الأبيض : أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره .والمقصود من الخيط الأسود : ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة الليل .والمعنى : لقد أبحنا لكم مباشرة النساء في ليالي الصوم ، وأبحنا لكم كذلك أن تأكلوا وأن تشربوا في هذه الليالي حتى يتبين لكم بياض الفجر من سواد الليل .قال الإِمام الرازي : ( الفجر ) مصدر قولك : فجرت الماء أفجره فجراً ، وفجرته تفجيراً قال الأزهري : الفجر أصله الشق ، فعلى هذا الفجر في آخر الليل هو انشقاق ظلمة الليل بنور الصبح .وقد وردت روايات صحيحة تفيد أن قوله : ( مِنَ الفجر ) قد تأخر نزوله عن الجمل السابقة له . ففي الصحيحين عن سهل به سعد قال أنزلت ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ويأكل حتى يتبين له رؤيتها ، فأنزل الله بعده ( مِنَ الفجر ) فعلموا أنه يعني الليل والنهار .ورويا أيضاً عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية ( وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ) عمدت إلى عقالين لي أسود وأبيض فجعلتهما تحت وسادتي وجعلت أنظر في الليل إليهما فلا يتبين لي ، فعمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال : " إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار " ونزل قوله - تعالى - : ( مِنَ الفجر ) .وشبه بياض النهار وسواد الليل بالخيطين : الأبيض والأسود لأن أول ما يبدوا من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل يكون كالخيط الممدود .وفي الإتيان بلفظ التفعل في قوله : ( حتى يَتَبَيَّنَ . . . ) إشعار بأنه لا يكفي إلا التبين الوضاح لا مجرد التوهم ، فقد روى الإِمام مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر - أو قال - حتى ينفجر الفجر " .وقوله : ( مِنَ الفجر ) بيان للخيط الأبيض . واكتفى به عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحدهما بيان للثاني ، ويجوز أن تكون " من " للتبعيض ، أي : من بعض الفجر .وقوله - تعالى - : ( ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل ) بيان لانتهاء وقت الصيام بعد أن بينت الجملة السابقة بدايته . أي : ابدءوا صومكم من طلوع الفجر وانتهوا منه بدخول الليل عند غروب الشمس ، إذ الليل لبس بوقت الصيام .قال الإِمام الرازي : كلمة ( إِلَى ) لإنتهاء الغاية ، فظاهر الآية : أن الصوم ينتهي عند دخول الليل ، وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك وقد تجيء هذه الكلمة لا للانتهاء كما في قوله - تعالى - : ( إِلَى المرافق ) إلا أن ذلك على خلاف الدليل ، والفرقب بين الصورتين أن الليل من جنس النهار فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار ، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلا فيه " .وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل الليل من هنا وأدبر النهار من هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم " .وكان من عادته صلى الله عليه وسلم تعجيل الفطر ، فقد روى الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " .وقد أخذ العلماء من هذه الآية ومن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله ، أن من واصل الإِمساك عن المفطرات في الليل فلا ثواب له على هذا الإِمساك ، لأنه لم يقع في الوقت الذي رسمه الشارع لعبادة الصوم ، بل يعد هذا المواصل فاعلا لمحظور ، فلا بد للصائم من تناول شي من المفطرات بعد غروب الشمس ولو قليلا من الماء . فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم تكن تميرات حسا حسوات من ماء ، والوصال - بمعى أن يصوم الشخص اليوم وما بعده من غير أن يتناول مفطراً في الليل الفاصل بينهما - وردت في النهي عنه أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تواصلوا ، قالوا : إنك تواصل يا رسول الله . قال : لست كأحد منكم إني أطعم وأسقى . أو قال : إني أظل يطعمني ربي ويسقيني " .وروى الإِمام أحمد عن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعنى بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : " يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا " .وقوله : ( وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ ) كان هذا الإِطلاق مظنة لأن يؤخذ منه أن المعتكف كالصائم في أنه يجوز له أن يباشر زوجته ليلا لا نهاراً ، فبين - سبحانه - بهذه الجملة أن المعتكف يحرم عليه أن يباشر النساء فيي الليل والنهار .قال القرطبي : والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه .قال الشاعر :وظل بنات الليل حولي عكفا ... عكوف البواكي بينهن صريعولما كان المعتكف ملازماً للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص .وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .وأجمع العلماء على أنه لا يكون إلا في المسجد واختلفوا في المراد بالمساجد في قوله - تعالى - ( فِي المساجد ) فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس ، وقال آخرون لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة ، وقال آخرون الاعتكاف في كل مسجد جائز .والمشار إليه في قوله - تعالى - : ( تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) الأحكام التي سبق تقريرها من إيجاب وتحريم وإباحة .والحدود جمع حد ، وهو في اللغة الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر . ومنه سمي الحديد حديداً لأنه يمنع وصول السلاح إلى البدن .و سميت الأحكام التي شرعها الله حدوداً لأنها تحجز بين الحق والباطل .أي : تلك الأحكام التي شرعناها لكم من إيجاب الصوم ، وتحريم الأكل والشرب والجماع في نهاره ، وإباحة ذلك في ليله ، هي حدود الله التي لا يحل لكم مخالفتها أو مجازتها .وعبر - سبحانه - عن النهي عن مخالفة تلك الأحكام بقوله : ( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) مبالغة في التحذير من مخالفتها ، لأن النهي عن القرب من الشيء نهى عن إتيانه بالأولى والآية ترشد بقولها ( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) إلى اجتناب ما فيه شبهة كما ترشد إلى ترك الأشياء التي تقضى في غالب أمرها إلى الوقوع في حرام .قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كيف قيل ( فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) مع قوله : ( فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله ) قلت : من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق فنهى أن يتعداه . لأن من تعداه وقع في حيز الباطل ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، وأن يكون في الواسطة متباعداً عن الطرف فضلا عن أن يتخطاه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لكل ملك حمى ، وحمى الله محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " فالرتع حول الحمى وقربان حيزه واحد . ويجوز أن يريد بحدود الله محارزه ومناهيه خصوصاً لقوله - تعالى - : ( وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ ) وهي حدود لا تقرب " .ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة بقوله : ( كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) .أي : مثل ذلك البيان الجامع الذي بين الله به حدوده التي أمركم بالتزامها ونهاكم عن مخالفتها ، يبين لكم آياته ، أي : أدلته وحججه لكي تصونوا أنفسكم عما يؤدي بكم إلى العقوبة ، وتكونوا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه .وبذلك تكون الآية الكريمة قد ختمت الحديث عن الصوم ، ببيان مظاهر رفق الله بعباده ، ورعايته لمصالحهم ومنافعهم بأسلوب بليغ جمع بين الترغيب والترهيب ، والإِباحة والتحريم ، وغير ذلك من أنواع الهداية والإِرشاد إلى ما يسعد الناس في دينهم ودنياهم .وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن الصيام ، وما يتعلق به من أحكام ، أردف ذلك بالنهي عن أكل الحرام ، لأنه يؤدي إلى عدم قبول العبادات من صيام واعتكاف ودعاء وغير ذلك فقال - تعالى - :( وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام . . . )
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك ، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة . فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة . والرفث هنا هو : الجماع . قاله ابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وطاوس ، وسالم بن عبد الله ، وعمرو بن دينار والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والضحاك ، وإبراهيم النخعي ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حيان .وقوله : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : يعني هن سكن لكم ، وأنتم سكن لهن .وقال الربيع بن أنس : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن .وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه ، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان ، لئلا يشق ذلك عليهم ، ويحرجوا ، قال الشاعرإذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباساوكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويل ، وقال أبو إسحاق عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر ، لم يأكل إلى مثلها ، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما ، وكان يومه ذاك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام ؟ قالت : لا ولكن أنطلق فأطلب لك . فغلبته عينه فنام ، وجاءت امرأته ، فلما رأته نائما قالت : خيبة لك ! أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) إلى قوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) ففرحوا بها فرحا شديدا .ولفظ البخاري هاهنا من طريق أبي إسحاق : سمعت البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء ، رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ) .وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إن أناسا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ) وكذا روى العوفي عن ابن عباس .وقال موسى بن عقبة ، عن كريب ، عن ابن عباس ، قال : إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ، ويحل لهم شأن النساء ، فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة ، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت . قال : " وماذا صنعت ؟ " قال : إني سولت لي نفسي ، فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأنا أريد الصوم . فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما كنت خليقا أن تفعل " . فنزل الكتاب : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قيس بن سعد ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي هريرة في قول الله تعالى ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) إلى قوله : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) قال : كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا ، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء ، وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عينه بعد صلاة المغرب ، فنام ولم يشبع من الطعام ، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، فقام فأكل وشرب ، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، فأنزل الله عند ذلك : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) يعني بالرفث : مجامعة النساء ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم ) يعني : تجامعون النساء ، وتأكلون وتشربون بعد العشاء ( فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ) يعني : جامعوهن ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) يعني : الولد ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فكان ذلك عفوا من الله ورحمة .وقال هشيم ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : قام عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت : إنها قد نامت ، فظننتها تعتل ، فواقعتها ، فنزل في عمر : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )وهكذا رواه شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن ابن أبي ليلى ، به .وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا سويد ، أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام ، حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد . فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فوجد امرأته قد نامت ، فأرادها ، فقالت : إني قد نمت ! فقال : ما نمت ! ثم وقع بها . وصنع كعب بن مالك مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : ( علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن ) [ الآية ] .وهكذا روي عن مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع ، وفي صرمة بن قيس ; فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقا .وقوله : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) قال أبو هريرة ، وابن عباس وأنس ، وشريح القاضي ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وزيد بن أسلم ، والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان ، والحسن البصري ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم : يعني الولد .وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) يعني : الجماع .وقال عمرو بن مالك النكري ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) قال : ليلة القدر . رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير .وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر قال : قال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم . وقال سعيد عن قتادة : ( وابتغوا ما كتب الله لكم ) يقول : ما أحل الله لكم .وقال عبد الرزاق أيضا : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : قلت لابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية : ( وابتغوا ) أو : " اتبعوا " ؟ قال : أيتهما شئت : عليك بالقراءة الأولى .واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله .وقوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) أباح تعالى الأكل والشرب ، مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل ، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ورفع اللبس بقوله : ( من الفجر ) كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف ، حدثني أبو حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : أنزلت : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) ولم ينزل ( من الفجر ) وكان رجال إذا أرادوا الصوم ، ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد : ( من الفجر ) فعلموا أنما يعني : الليل والنهار .وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين ، عن الشعبي ، أخبرني عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ) عمدت إلى عقالين ، أحدهما أسود والآخر أبيض ، قال : فجعلتهما تحت وسادتي ، قال : فجعلت أنظر إليهما فلا تبين لي الأسود من الأبيض ، ولا الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت . فقال : " إن وسادك إذا لعريض ، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل " .أخرجاه في الصحيحين من غير وجه ، عن عدي . ومعنى قوله : " إن وسادك إذا لعريض " أي : إن كان يسع لوضع الخيط الأسود والخيط الأبيض المرادين من هذه الآية تحتها ، فإنهما بياض النهار وسواد الليل . فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب .وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا : أخبرنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن عدي قال : أخذ عدي عقالا أبيض وعقالا أسود ، حتى كان بعض الليل نظر فلم يتبينا . فلما أصبح قال : يا رسول الله ، جعلت تحت وسادتي . قال : " إن وسادك إذا لعريض ، إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك " .وجاء في بعض الألفاظ : إنك لعريض القفا . ففسره بعضهم بالبلادة ، وهو ضعيف . بل يرجع إلى هذا ; لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض ، والله أعلم . ويفسره رواية البخاري أيضا :حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان ؟ قال : " إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين " . ثم قال : " لا بل هو سواد الليل وبياض النهار " .وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر ، دليل على استحباب السحور ; لأنه من باب الرخصة ، والأخذ بها محبوب ; ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور [ لأنه من باب الرخصة والأخذ بها ] ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تسحروا فإن في السحور بركة " . وفي صحيح مسلم ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر " .وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى هو ابن الطباع ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السحور أكله بركة ; فلا تدعوه ، ولو أن أحدكم يجرع جرعة من ماء ، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " .وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء ، تشبها بالآكلين . ويستحب تأخيره إلى قريب انفجار الفجر ، كما جاء في الصحيحين ، عن أنس بن مالك ، عن زيد بن ثابت ، قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قمنا إلى الصلاة . قال أنس : قلت لزيد : كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين آية .وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن سالم بن غيلان ، عن سليمان بن أبي عثمان ، عن عدي بن حاتم الحمصي ، عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور " . وقد ورد في أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه الغداء المبارك ، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه من رواية حماد بن سلمة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زر بن حبيش ، عن حذيفة بن اليمان قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع . وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود ، قاله النسائي ، وحمله على أن المراد قرب النهار ، كما قال تعالى : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) [ الطلاق : 2 ] أي : قاربن انقضاء العدة ، فإما إمساك أو ترك للفراق . وهذا الذي قاله هو المتعين حمل الحديث عليه : أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر ، حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك . وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر . روي مثل هذا عن أبي بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت وعن طائفة كثيرة من التابعين ، منهم : محمد بن علي بن الحسين ، وأبو مجلز ، وإبراهيم النخعي ، وأبو الضحى ، وأبو وائل ، وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء ، والحسن ، والحكم بن عيينة ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد . وإليه ذهب الأعمش ومعمر بن راشد . وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد ، ولله الحمد .وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره ، عن بعضهم : أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها .قلت : وهذا القول ما أظن أحدا من أهل العلم يستقر له قدم عليه ، لمخالفته نص القرآن في قوله : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم ، فإنه ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " . لفظ البخاري .وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا محمد بن جابر ، عن قيس بن طلق ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكنه المعترض الأحمر " . ورواه أبو داود ، والترمذي ولفظهما : " كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد ، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر " .وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن شيخ من بني قشير : سمعت سمرة بن جندب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر ، أو يطلع الفجر " .ثم رواه من حديث شعبة وغيره ، عن سوادة بن حنظلة ، عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ، ولكن الفجر المستطير في الأفق " .قال : وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن عبد الله بن سوادة القشيري ، عن أبيه ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض ، لعمود الصبح حتى يستطير " .ورواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب ، عن إسماعيل بن إبراهيم يعني بن علية مثله سواء .وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا ابن المبارك ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره أو قال نداء بلال فإن بلالا يؤذن أو [ قال ] ينادي لينبه نائمكم وليرجع قائمكم ، وليس الفجر أن يقول هكذا أو هكذا ، حتى يقول هكذا " .ورواه من وجه آخر عن التيمي ، به .وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي ، حدثنا أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الفجر فجران ، فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا ، وأما المستطير الذي يأخذ الأفق ، فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام " . وهذا مرسل جيد .وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران ، فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا ، ولكن الفجر الذي يستبين على رؤوس الجبال ، هو الذي يحرم الشراب . قال عطاء : فأما إذا سطع سطوعا في السماء ، وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يحرم به شراب لصيام ولا صلاة ، ولا يفوت به حج ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال ، حرم الشراب للصيام وفات الحج .وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء ، وهكذا روي عن غير واحد من السلف ، رحمهم الله .مسألة : ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام ، يستدل على أنه من أصبح جنبا فليغتسل ، وليتم صومه ، ولا حرج عليه . وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفا وخلفا ، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة ، رضي الله عنهما ، أنهما قالتا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ، ثم يغتسل ويصوم . وفي حديث أم سلمة عندهما : ثم لا يفطر ولا يقضي . وفي صحيح مسلم ، عن عائشة : أن رجلا قال : يا رسول الله ، تدركني الصلاة وأنا جنب ، فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب ، فأصوم " . فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . فقال : " والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ " فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين ، كما ترى وهو في الصحيحين عن أبي هريرة ، عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي سنن النسائي عنه ، عن أسامة بن زيد ، والفضل بن عباس ولم يرفعه . فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا ، ومنهم من ذهب إليه ، ويحكى هذا عن أبي هريرة ، وسالم ، وعطاء ، وهشام بن عروة ، والحسن البصري . ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنبا نائما فلا عليه ، لحديث عائشة وأم سلمة ، أو مختارا فلا صوم له ، لحديث أبي هريرة . يحكى هذا عن عروة ، وطاوس ، والحسن . ومنهم من فرق بين الفرض فيتمه ويقضيه وأما النفل فلا يضره . رواه الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم النخعي . وهو رواية عن الحسن البصري أيضا ، ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة ، ولكن لا تاريخ معه .وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية الكريمة ، وهو بعيد أيضا ، وأبعد ; إذ لا تاريخ ، بل الظاهر من التاريخ خلافه . ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال " فلا صوم له " لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز . وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها ، والله أعلم .وقوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكما شرعيا ، كما جاء في الصحيحين ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ، فقد أفطر الصائم " .وعن سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " أخرجاه أيضا .وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا قرة بن عبد الرحمن ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله ، عز وجل : إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا " .ورواه الترمذي من غير وجه ، عن الأوزاعي ، به . وقال : هذا حديث حسن غريب .وقال أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا عبيد الله بن إياد ، سمعت إياد بن لقيط قال : سمعت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية ، قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة ، فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه . وقال : " يفعل ذلك النصارى ، ولكن صوموا كما أمركم الله ، وأتموا الصيام إلى الليل ، فإذا كان الليل فأفطروا " .[ وروى الحافظ ابن عساكر ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا يحيى بن حمزة ، عن ثور بن يزيد ، عن علي بن أبي طلحة ، عن عبد الملك بن أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل يومين وليلة ; فأتاه جبريل فقال : إن الله قد قبل وصالك ، ولا يحل لأحد بعدك ، وذلك بأن الله قال : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) فلا صيام بعد الليل ، وأمرني بالوتر قبل الفجر ، وهذا إسناد لا بأس به ، أورده في ترجمة عبد الملك بن أبي ذر في تاريخه ] .ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال ، وهو أن يصل صوم يوم بيوم آخر ، ولا يأكل بينهما شيئا . قال الإمام أحمد :حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تواصلوا " . قالوا : يا رسول الله ، إنك تواصل . قال : " فإني لست مثلكم ، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " . قال : فلم ينتهوا عن الوصال ، فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ، ثم رأوا الهلال ، فقال : " لو تأخر الهلال لزدتكم " كالمنكل بهم .وأخرجاه في الصحيحين ، من حديث الزهري به . وكذلك أخرجا النهي عن الوصال من حديث أنس وابن عمر .وعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، رحمة لهم ، فقالوا : إنك تواصل . قال : " إني لست كهيئتكم ، إني يطعمني ربي ويسقيني " .فقد ثبت النهي عنه من غير وجه ، وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان يقوى على ذلك ويعان ، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويا لا حسيا ، وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي ، ولكن كما قال الشاعر :لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزادوأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك ، كما في حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تواصلوا ، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر " . قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله . قال : " إني لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعم يطعمني ، وساق يسقيني " . أخرجاه في الصحيحين أيضا .وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أبو إسرائيل العبسي عن أبي بكر بن حفص ، عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة : أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر ، فدعاها إلى الطعام . فقالت : إني صائمة . قال : وكيف تصومين ؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أين أنت من وصال آل محمد ، من السحر إلى السحر " .وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن محمد بن علي ، عن علي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر .وقد روى ابن جرير ، عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ، أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة [ وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف ] وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم ، لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة . والله أعلم . ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاد ، [ أي ] من باب الشفقة ، كما جاء في حديث عائشة : " رحمة لهم " ، فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه ، لأنهم كانوا يجدون قوة عليه . وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولا . وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم . وقال أبو العالية : إنما فرض الله الصيام بالنهار فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل .وقوله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان ، فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا ونهارا حتى يقضي اعتكافه .وقال الضحاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد ، جامع إن شاء ، فقال الله تعالى : ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ) أي : لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره . وكذا قال مجاهد ، وقتادة وغير واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية .قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن مسعود ، ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك والسدي ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، قالوا : لا يقربها وهو معتكف . وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء : أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده ، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يتلبث فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك ، من قضاء الغائط ، أو أكل ، وليس له أن يقبل امرأته ، ولا يضمها إليه ، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ، ولا يعود المريض ، لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه .وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابه ، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ، ومنها ما هو مختلف فيه . وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام ، ولله الحمد .ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف ، اقتداء بالقرآن العظيم ، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم . وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام ، أو في آخر شهر الصيام ، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان ، حتى توفاه الله ، عز وجل . ثم اعتكف أزواجه من بعده . أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ، فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت لترجع إلى منزلها وكان ذلك ليلا فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها ، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة ، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا وفي رواية : تواريا أي حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " على رسلكما إنها صفية بنت حيي " أي : لا تسرعا ، واعلما أنها صفية بنت حيي ، أي : زوجتي . فقالا سبحان الله يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا " أو قال : " شرا " .قال الشافعي ، رحمه الله : أراد ، عليه السلام ، أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها ، لئلا يقعا في محذور ، وهما كانا أتقى لله أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا . والله أعلم .ثم المراد بالمباشرة : إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ، ومعانقة ونحو ذلك ، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به ; فقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . قالت عائشة : ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة .وقوله : ( تلك حدود الله ) أي : هذا الذي بيناه ، وفرضناه ، وحددناه من الصيام ، وأحكامه ، وما أبحنا فيه وما حرمنا ، وذكر غاياته ورخصه وعزائمه ، حدود الله ، أي : شرعها الله وبينها بنفسه ( فلا تقربوها ) أي : لا تجاوزوها ، وتعتدوها .وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله تعالى : ( تلك حدود الله ) أي : المباشرة في الاعتكاف .وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني هذه الحدود الأربعة ، ويقرأ ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ) حتى بلغ : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) قال : وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا .( كذلك يبين الله آياته للناس ) أي : كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله ، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ( للناس لعلهم يتقون ) أي : يعرفون كيف يهتدون ، وكيف يطيعون كما قال تعالى : ( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور [ وإن الله بكم لرءوف رحيم ) ] . [ الحديد : 9 ] .
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقونفيه ست وثلاثون مسألة :الأولى : قوله تعالى : أحل لكم لفظ أحل يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ . روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال : وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح ، قال : فجاء عمر فأراد امرأته فقالت : إني قد نمت ، فظن أنها تعتل فأتاها ، فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا : حتى نسخن لك شيئا فنام ، فلما أصبحوا نزلت عليه هذه الآية ، وفيها : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، وروى البخاري عن البراء قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما - وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما - فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ففرحوا فرحا شديدا ، ونزلت : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وفي البخاري أيضا عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم يقال : خان واختان بمعنى من الخيانة ، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم ، ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب ، وقال القتبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه ، وذكر الطبري : أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له : قد نمت ، فقال لها : ما نمت ، فوقع بها . وصنع كعب بن مالك مثله ، فغدا عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعتذر إلى الله وإليك ، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي ، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي : لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن . وذكره النحاس ومكي ، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته ، وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فنزلت : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن الآية .الثانية : قوله تعالى : ليلة الصيام الرفث ليلة نصب على الظرف وهي اسم جنس فلذلك أفردت . و الرفث : كناية عن الجماع لأن الله عز وجل كريم يكني ، قاله ابن عباس والسدي . وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وقاله الأزهري أيضا ، وقال ابن عرفة : الرفث ها هنا الجماع ، والرفث : التصريح بذكر الجماع والإعراب به . قال الشاعرويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفاروقيل : الرفث أصله قول الفحش ، يقال : رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح ، ومنه قول الشاعر :ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلموتعدى الرفث بإلى في قوله تعالى جده : الرفث إلى نسائكم ، وأنت لا تقول : رفثت إلى النساء ، ولكن جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله : وقد أفضى بعضكم إلى بعض . ومن هذا المعنى : وإذا خلوا إلى شياطينهم كما تقدم ، وقوله : يوم يحمى عليها أي يوقد ; لأنك تقول : أحميت الحديدة في النار ، وسيأتي ، ومنه قوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره ، حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره ; لأنك تقول : خالفت زيدا ، ومثله قوله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما حمل على رءوف في نحو بالمؤمنين رءوف رحيم ، ألا ترى أنك تقول : رؤفت به ، ولا تقول رحمت به ، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية ، ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي :حملت به في ليلة مزءودة كرها وعقد نطاقها لم يحللعدى " حملت " بالباء ، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه ، كما جاء في التنزيل : حملته أمه كرها ووضعته كرها ولكنه قال : حملت به ; لأنه في معنى حبلت به .الثالثة : قوله تعالى : هن لباس لكم ابتداء وخبر ، وشددت النون من هن لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر . وأنتم لباس لهن أصل اللباس في الثياب ، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا ، لانضمام الجسد إلى الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب ، وقال النابغة الجعدي :إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباساوقال أيضا :لبست أناسا فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناساوقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وداراه : لباس ، فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل ، كما ورد في الخبر ، وقيل : لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس ، وقال أبو عبيد وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك . قال رجل لعمر بن الخطاب :ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاريقال أبو عبيد : أي نسائي ، وقيل نفسي ، وقال الربيع : هن فراش لكم ، وأنتم لحاف لهن . مجاهد : أي سكن لكم ، أي يسكن بعضكم إلى بعض .الرابعة : قوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم ، كقوله تعالى : تقتلون أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا ، ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها ، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ، كما تقدم . وقوله : فتاب عليكم يحتمل معنيين : أحدهما - قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم . والآخر : التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة ، كقوله تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم يعني خفف عنكم ، وقوله عقيب القتل الخطأ : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله يعني تخفيفا ; لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه ، وقال تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة وإن لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب التوبة منه . وقوله : وعفا عنكم يحتمل العفو من الذنب ، ويحتمل التوسعة والتسهيل ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله يعني تسهيله وتوسعته ، فمعنى علم الله أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة فتاب عليكم بعد ما وقع ، أي خفف عنكم وعفا أي سهل . وتختانون من الخيانة ، كما تقدم . قال ابن العربي : وقال علماء الزهد : وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة ، خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة ، وخفف من أجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه .قوله تعالى : فالآن باشروهن كناية عن الجماع ، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم . وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه . قال ابن العربي : ( وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي الله عنه لا جوع قيس ; لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال : فالآن كلوا ، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله ) .الخامسة : قوله تعالى : وابتغوا ما كتب الله لكم قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك : معناه وابتغوا الولد ، يدل عليه أنه عقيب قوله : فالآن باشروهن ، وقال ابن عباس : ما كتب الله لنا هو القرآن . الزجاج : أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به ، وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، وقيل : المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة ، قاله قتادة . قال ابن عطية : وهو قول حسن . قيل : وابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزوجات . وقرأ الحسن البصري والحسن ابن قرة ( واتبعوا ) من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح ابتغوا من الابتغاء .السادسة : وكلوا واشربوا هذا جواب نازلة قيس ، والأول جواب عمر ، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم .السابعة : قوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر حتى غاية للتبيين ، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك ، فقال الجمهور : ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة ، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار . روىمسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا ، وحكاه حماد بيديه قال : يعني معترضا ، وفي حديث ابن مسعود : إن الفجر ليس الذي يقول هكذا - وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض - ولكن الذي يقول هكذا - ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه ، وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام هذا مرسل وقالت طائفة : ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت ، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال . وقال مسروق : لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت ، وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة : أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع ، وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال : كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر . قال الدارقطني : قيس بن طلق ليس بالقوي ، وقال أبو داود : هذا مما تفرد به أهل اليمامة . قال الطبري : والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس ، وآخره غروبها ، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين . وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : إنما هو سواد الليل وبياض النهار الفيصل في ذلك ، وقوله أياما معدودات وروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له . تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد ، وكلهم ثقات . وروي عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له . رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء ، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها ، ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر ، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر ، خلافا لقول أبي حنيفة ، وهي :الثامنة : وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية ، وقد وقتها الشارع قبل الفجر ، فكيف يقال : إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز . وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : نزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد " من الفجر " فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار . وعن عدي بن حاتم قال قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان ؟ قال : إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين - ثم قال - لا بل هو سواد الليل وبياض النهار . أخرجه البخاري ، وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط . قال الشاعر :الخيط الابيض ضوء الصبح منفلق والخيط الاسود جنح الليل مكتوموالخيط في كلامهم عبارة عن اللون ، والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث ، وأصله الشق ، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها : فجر لانبعاث ضوئه ، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض ، كما بيناه . قال أبو داود الإيادي :فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أناراوقال آخر :قد كاد يبدو وبدت تباشره وسدف الليل البهيم ساترهوقد تسميه أيضا الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر ، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معديكرب :ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديعوشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال :إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهينويقولون في الأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وكانبلاج الفجر ، وتباشير الصبح . قال الشاعر [ هو حميد الأرقط ] :فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفرالتاسعة : قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل جعل الله جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع ، والنهار ظرفا للصيام ، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما ، فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض ، كما تقدم بيانه ، فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا ، فإن كان الأول فقال مالك : من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة ، لما رواه في موطئه ، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا الحديث ، وبهذا قال الشعبي ، وقال الشافعي وغيره : إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع ، لحديث أبي هريرة أيضا قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله قال : وما أهلكك قال : وقعت على امرأتي في رمضان ، الحديث ، وفيه ذكر الكفارة على الترتيب ، أخرجه مسلم وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا : هي واحدة ، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان ; لأن مساقهما مختلف ، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيود فلزم مطلقا ، وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر ، وروي ذلك عن عطاء في رواية ، وعن الحسن والزهري ، ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول : ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على عموم الحكم ، وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر .العاشرة : واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في رمضان ، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي : عليها مثل ما على الزوج ، وقال الشافعي : ليس عليها إلا كفارة واحدة ، وسواء طاوعته أو أكرهها ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل . وروي عن أبي حنيفة : إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة ، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير ، وهو قول سحنون بن سعيد المالكي ، وقال مالك : عليه كفارتان ، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه .الحادية عشرة : واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل ، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق : ليس عليه في الوجهين شيء ، لا قضاء ولا كفارة ، وقال مالك والليث والأوزاعي : عليه القضاء ولا كفارة ، وروي مثل ذلك عن عطاء . وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع ، وقال : مثل هذا لا ينسى ، وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة ، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ; لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد . قال ابن المنذر : لا شيء عليه .الثانية عشرة : قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه . قال ابن المنذر : وبه نقول ، وقيل في المذهب : عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا . قال أبو عمر : وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر ; لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك ، فأي حرمة هتك وهو مفطر ، وعند غير مالك : ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه .قلت : وهو الصحيح ، وبه قال الجمهور : إن كل من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام ، لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه ولا قضاء عليه - في رواية - وليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه . أخرجه الدارقطني ، وقال : إسناد صحيح وكلهم ثقات . قال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عمن أكل ناسيا في رمضان ، قال : ليس عليه شيء لحديث أبي هريرة . ثم قال أبو عبد الله مالك : وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء وضحك ، وقال ابن المنذر : لا شيء عليه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسيا : يتم صومه وإذا قال ( يتم صومه ) فأتمه فهو صوم تام كامل .قلت : وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة - والله أعلم - كمن لم يفطر ناسيا ، وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا : المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع به خرم ، لقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه ، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته ، وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم : من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فلم يذكر قضاء ولا تعرض له ، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه ، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء ، فأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : لا قضاء عليه .قلت : هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح ، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه ، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة أخرجه الدارقطني وقال : تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري ، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال ، والحمد لله ذي الجلال والكمال .الثالثة عشرة : لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع ، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها ، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر ; لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل ; ولذلك شاع الاختلاف فيه ، واختلف علماء السلف فيه ، فمن ذلك المباشرة . قال علماؤنا : يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها ، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم . روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم ، وهذا - والله أعلم - خوف ما يحدث عنهما ، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه ، وكذلك إن باشر . وروى البخاري عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم ، وممن كره القبلة للصائم عبد الله بن مسعود وعروة بن الزبير ، وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه ، والحديث حجة عليهم . قال أبو عمر : ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه ، فإن قبل فأمنى عليه القضاء ولا كفارة ، قاله أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي ، واختاره ابن المنذر وقال : لا ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة . قال أبو عمر : ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم ، وقال أحمد : من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه ، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا ، وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء ، وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي . قال القاضي أبو محمد : واتفق أصحابنا على ألا كفارة عليه ، وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء ، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل ، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل ، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون : لا كفارة عليه حتى يكرر ، وقال ابن القاسم : يكفر في ذلك كله ، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر . وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى : الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق ، وهو قول مالك في المدونة ، وحجة قول أشهب : أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها ، وإنما يبقى أن تئول إلى الأمر الذي يقع به الفطر ، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها ، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر . قال اللخمي : واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر ألا كفارة عليه إلا أن يتابع ، والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم ، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك ، فإن كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة ، أو كانت عادته مختلفة : مرة ينزل ، ومرة لا ينزل ، رأيت عليه الكفارة ; لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له ، وإن كانت عادته السلامة فقدر أن يكون منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة ، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة ; لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفى بما ظهر منه . وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك ، وقولهم في النظر دليل على ذلك .قلت : ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك ، فقد حكى الباجي في المنتقى " فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فقد قال الشيخ أبو الحسن : عليه القضاء والكفارة . قال الباجي : وهو الصحيح عندي ; لأنه إذا قصد به الاستمتاع كان كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع ، والله أعلم " ، وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى : فلا قضاء عليه ولا كفارة ، قاله ابن المنذر . قال الباجي : وروى في المدونة ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة .الرابعة عشرة : والجمهور على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي : وذلك جائز إجماعا ، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح .قلت : أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور ، وذلك قول أبي هريرة : من أصبح جنبا فلا صوم له ، أخرجه الموطأ وغيره ، وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع : والله ما أنا قلته ، محمد صلى الله عليه وسلم والله قاله . وقد اختلف في رجوعه عنها ، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له ، حكاه ابن المنذر ، وروي عن الحسن بن صالح ، وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال : إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر ، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم ، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير ، وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض .قلت : فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا ، والصحيح منها مذهب الجمهور ، لحديث عائشة رضي الله عنها وأم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم ، أخرجهما البخاري ومسلم ، وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى : فالآن باشروهن الآية ، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب ، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر ، وقد قال الشافعي : ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه ، وقال المزني : عليه القضاء لأنه من تمام الجماع ، والأول أصح لما ذكرنا ، وهو قول علمائنا .الخامسة عشرة : واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح ، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه ، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب ، وهو قول مالك وابن القاسم ، وقال عبد الملك : إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ; لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم ، والحيضة تنقضه . هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبد الملك ، وقال الأوزاعي : تقضي لأنها فرطت في الاغتسال ، وذكر ابن الجلاب عن عبد الملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب ، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر ، وقاله مالك ، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض ، وقال محمد بن مسلمة في هذه : تصوم وتقضي ، مثل قول الأوزاعي ، وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح - الكفارة مع القضاء .السادسة عشرة : وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده ، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا ، ولا كفارة عليها .السابعة عشرة : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفطر الحاجم والمحجوم . من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس ، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج ، وقال مالك والشافعي والثوري : لا قضاء عليه ، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير ، وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له : أكنتم تكرهون الحجامة للصائم ؟ قال لا ، إلا من أجل الضعف ، وقال أبو عمر : حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( احتجم صائما محرما ) لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صلى الله عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال : أفطر الحاجم والمحجوم واحتجم هو صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم ، فإذا كانت حجته صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدركه بعد ذلك رمضان ; لأنه توفي في ربيع الأول .الثامنة عشرة : قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف . وإلى غاية ، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقوله اشتريت الفدان إلى حاشيته ، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة - والمبيع شجر ، فإن الشجرة داخلة في المبيع . بخلاف قولك : اشتريت الفدان إلى الدار ، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليس من جنسه ، فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل ، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار .التاسعة عشرة : من تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها ، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء ، وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه ، قال : ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية ، وقيل : عليه القضاء والكفارة ، وقال سحنون : إنما يكفر من بيت الفطر ، فأما من نواه في نهاره فلا يضره ، وإنما يقضي استحسانا .قلت : هذا حسن .الموفية عشرين : قوله تعالى : إلى الليل إذا تبين الليل سن الفطر شرعا ، أكل أو لم يأكل . قال ابن العربي : وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد ، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : إذا جاء الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم ، وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال : لا بد أن يفطر على حار أو بارد ، وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أولى ; لأنه مقتضى الكتاب والسنة .الحادية والعشرون : فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء ، وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس ، قيل لهشام : فأمروا بالقضاء ، قال : فلا بد من قضاء ؟ . قال عمر في الموطأ في هذا : الخطب يسير ، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء ، وروي عن عمر أنه قال : لا قضاء عليه ، وبه قال الحسن البصري : لا قضاء عليه كالناسي ، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر ، وقول الله تعالى : إلى الليل يرد هذا القول ، والله أعلم .الثانية والعشرون : فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء ، قاله مالك إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها ، ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل ، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي ، لم يختلف في ذلك قوله ، ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر ، وبه قال ابن المنذر ، وقال إلكيا الطبري : ( وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه ، كذلك قال مجاهد وجابر بن زيد ، ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان ، والذي نحن فيه مثله ، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه ) .الثالثة والعشرون : قوله تعالى : إلى الليل فيه ما يقتضي النهي عن الوصال ، إذ الليل غاية الصيام ، وقالته عائشة ، وهذا موضع اختلف فيه ، فمن واصل عبد الله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم . كان ابن الزبير يواصل سبعا ، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه ، قال : وكانت تيبس أمعاؤه ، وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها ، وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع ، قال صلى الله عليه وسلم : إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من ها هنا فقد أفطر الصائم . خرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى . ونهى عن الوصال ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال : لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا . أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، وفي حديث أنس : لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم . خرجه مسلم أيضا ، وقال صلى الله عليه وسلم : إياكم والوصال إياكم والوصال تأكيدا في المنع لهم منه ، أخرجه البخاري ، وعلى كراهية الوصال - لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان - جمهور العلماء ، وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب ، قال صلى الله عليه وسلم : إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر . خرجه مسلم وأبو داود . وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ قال : لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني . قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر ، وهو غاية في الوصال لمن أراده ، ومنع من اتصال يوم بيوم ، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك . واحتج من أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو ، ومع حاجتهم في ذلك الوقت ، وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات ، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم ، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال : لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ، فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم ، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات والله أعلم .قلت : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أولى ، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات ، والدليل على ذلك ما ذكرناه ، وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي ، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه ، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل ، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا : إنك تواصل ، فأخبر أنه يطعم ويسقى ، وظاهر هذه الحقيقة : وأنه صلى الله عليه وسلم يؤتى بطعام الجنة وشرابها ، وقيل : إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف ، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها ، ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه ، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا ، وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم ، وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله : ( أطعم وأسقى ) المعنى لكان مفطرا حكما ، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما ، ولا فرق بينهما ، قال صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، وعلى هذا الحد ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ، فكان تركه أولى ، وبالله التوفيق .الرابعة والعشرون : ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء ، لما رواه أبو داود عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي ، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات ، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء ، وأخرجه الدارقطني وقال فيه : إسناد صحيح ، وروى الدارقطني عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال : لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وعن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر : ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله . خرجه أبو داود أيضا . وقال الدارقطني : تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن ، وروى ابن ماجه عن عبد الله بن الزبير قال : أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقال : أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ، وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد . قال ابن أبي مليكة : سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي ، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه .الخامسة والعشرون : ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام ، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر هذا حديث حسن صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني ، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا ، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة . رواه النسائي ، واختلف في صيام هذه الأيام ، فكرهها مالك في موطئه خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه ، وقد وقع ما خافه حتى إنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان ، وروى مطرف عن نافع أنه كان يصومها في خاصة نفسه ، واستحب صيامها الشافعي ، وكرهه أبو يوسف .السادسة والعشرون : قوله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد بين جل وتعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف . وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه ، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك ، فقال الحسن البصري والزهري : عليه ما على المواقع أهله في رمضان ، فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة ، وإن لم يقصد لم يكره ; لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف ، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة ، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر . قال أبو عمر : وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل ، واختلفوا فيما عليه إن فعل ، فقال مالك والشافعي : إن فعل شيئا من ذلك فسد اعتكافه ، قاله المزني ، وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف : لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلا ما يوجب الحد ، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم .السابعة والعشرون : قوله تعالى : وأنتم عاكفون جملة في موضع الحال ، والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه . قال الراجز :عكف النبيط يلعبون الفنزجاوقال الشاعر :وظل بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريعولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم ، وهو في عرف الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص ، وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأزواجه ، ويلزمه إن ألزمه نفسه ، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه .الثامنة والعشرون : أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد ، لقول الله تعالى : في المساجد واختلفوا في المراد بالمساجد ، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوع من المساجد ، وهو ما بناه نبي كالمسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد إيلياء ، روي هذا عن حذيفة بن اليمان وسعيد بن المسيب ، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها ، وقال آخرون : لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجماعة ; لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد ، روي هذا عن علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبي جعفر محمد بن علي ، وهو أحد قولي مالك ، وقال آخرون : الاعتكاف في كل مسجد جائز ، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبي قلابة وغيرهم ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما ، وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن ، وهو أحد قولي مالك وبه يقول ابن علية وداود بن علي والطبري وابن المنذر ، وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح . قال الدارقطني : والضحاك لم يسمع من حذيفة .التاسعة والعشرون : وأقل الاعتكاف عند مالك وأبي حنيفة يوم وليلة ، فإن قال : لله علي اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم ، وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة ، وقال سحنون : من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء عليه ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة ، وإن نذر ليلة فلا شيء عليه ، كما قال سحنون . قال الشافعي : عليه ما نذر ، إن نذر ليلة فليلة ، وإن نذر يوما فيوما . قال الشافعي : أقله لحظة ولا حد لأكثره ، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة : يصح الاعتكاف ساعة ، وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم ، وروي عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه ، وهو قول داود بن علي وابن علية ، واختاره ابن المنذر وابن العربي ، واحتجوا بأن اعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في رمضان ، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره ، ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه ، ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره ، وأن ليله داخل في اعتكافه ، وأن الليل ليس بموضع صوم ، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم ، وإن صام فحسن ، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الآخر : لا يصح إلا بصوم ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ، وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبد الله بن عمر : لا اعتكاف إلا بصيام ، لقول الله تعالى في كتابه : وكلوا واشربوا إلى قوله : في المساجد وقالا : فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام . قال يحيى قال مالك : وعلى ذلك الأمر عندنا ، واحتجوا بما رواه عبد الله بن بديل عن عمرو بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اعتكف وصم . أخرجه أبو داود ، وقال الدارقطني : تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف ، وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا اعتكاف إلا بصيام . قال الدارقطني : تفرد به سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة . وقالوا : ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف ، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره ، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف إلى مقتضاه في أصل الشرع ، وهذا كمن نذر صلاة فإنها تلزمه ، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها .الموفية ثلاثين : وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا لما لا بد له منه ، لما روى الأئمة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان تريد الغائط والبول ، ولا خلاف في هذا بين الأمة ولا بين الأئمة ، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لا بد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه ، ومن الضرورة المرض البين والحيض . واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك ، فمذهب مالك ما ذكرنا ، وكذلك مذهب الشافعي وأبي حنيفة ، وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي : يعود المريض ويشهد الجنائز ، وروي عن علي وليس بثابت عنه ، وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع ، فقال في الاعتكاف الواجب : لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز ، وقال في التطوع : يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة ، وقال الشافعي : يصح اشتراط الخروج من معتكفه لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه ، واختلف فيه عن أحمد ، فمنع منه مرة وقال مرة : أرجو ألا يكون به بأس ، وقال الأوزاعي كما قال مالك : لا يكون في الاعتكاف شرط . قال ابن المنذر : لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لا بد له منه ، وهو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج له .الحادية والثلاثون : واختلفوا في خروجه للجمعة ، فقالت طائفة : يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم ; لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه . ورواه ابن الجهم عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة ، واختاره ابن العربي وابن المنذر ، ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع ، وإذا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه ، وقال عبد الملك : يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه .قلت : وهو صحيح لقوله تعالى : وأنتم عاكفون في المساجد نعم ، وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة ، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان ، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الآخر قدم الآكد ، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب ، ولم يقل أحد بترك الخروج إليها ، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان .الثانية والثلاثون : المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه ; لأن الكبيرة ضد العبادة ، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة ، وترك ما حرم الله تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة . قاله ابن خويز منداد عن مالك .الثالثة والثلاثون : روى مسلم عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه . . . الحديث ، واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه ، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث ، وروي عن الثوري والليث بن سعد في أحد قوليه ، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين . وقال أبو ثور : إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام ، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس ، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر ، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم . قال مالك : وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر ، وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون ; لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها ، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم ، وقال الشافعي : إذا قال لله علي يوم دخل قبل طلوع الفجر وخرج بعد غروب الشمس ، خلاف قوله في الشهر ، وقال الليث في أحد قوليه وزفر : يدخل قبل طلوع الفجر ، والشهر واليوم عندهم سواء ، وروي مثل ذلك عن أبي يوسف وبه قال القاضي عبد الوهاب ، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع ، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم ، فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل .قلت : وحديث عائشة يرد هذا القول وهو الحجة عند التنازع ، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته .الرابعة والثلاثون : استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى ، وبه قال أحمد ، وقال الشافعي والأوزاعي : يخرج إذا غابت الشمس ، ورواه سحنون عن ابن القاسم ; لأن العشر يزول بزوال الشهر ، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان ، وقال سحنون : إن ذلك على الوجوب ، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه ، وقال ابن الماجشون : وهذا يرده ما ذكرنا من
﴿ تفسير الطبري ﴾
أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكمالقول في تأويل قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم يعني تعالى ذكره بقوله : أحل لكم أطلق لكم وأبيح . ويعني بقوله : ليلة الصيام في ليلة الصيام . فأما الرفث فإنه كناية عن الجماع في هذا الموضع , يقال : هو الرفث والرفوث . وقد روي أنها في قراءة عبد الله : وأحل لكم ليلة الصيام الرفوث إلى نسائكم وبمثل الذي قلنا في تأويل الرفث قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 2396 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري , قال : ثنا أيوب بن سويد , عن سفيان , عن عاصم , عن بكر عن عبد الله المزني , عن ابن عباس قال : الرفث : الجماع , ولكن الله كريم يكني . * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن عاصم , عن بكر , عن ابن عباس , مثله . * - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قال : الرفث : النكاح . 2397 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة , قال : الرفث : غشيان النساء . 2398 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد في قوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم قال : الجماع . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , مثله . * - حدثني المثنى , قال : حدثنا أبو صالح , قال : حدثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قال : الرفث : هو النكاح . 2399 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال ثنا عبد الكبير البصري , قال : ثنا الضحاك بن عثمان , قال : سألت سالم بن عبد الله عن قوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم قال : هو الجماع . 2400 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم يقول : الجماع . والرفث في غير هذا الموضع الإفحاش في المنطق كما قال العجاج : عن اللغا ورفث التكلمهن لباس لكم وأنتم لباس لهنالقول في تأويل قوله تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن يعني تعالى ذكره بذلك : نساؤكم لباس لكم , وأنتم لباس لهن . فإن قال قائل : وكيف يكون نساؤنا لباسا لنا ونحن لهن لباسا واللباس إنما هو ما لبس ؟ قيل : لذلك وجهان من المعاني : أحدهما أن يكون كل واحد منهما جعل لصاحبه لباسا , لتخرجهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه بمنزلة ما يلبسه على جسده من ثيابه , فقيل لكل واحد منهما هو لباس لصاحبه , كما قال نابغة بني جعدة : إذا ما الضجيع ثنى عطفها تداعت فكانت عليه لباسا ويروى " تثنت " فكنى عن اجتماعهما متجردين في فراش واحد باللباس كما يكنى بالثياب عن جسد الإنسان , كما قالت ليلى وهي تصف إبلا ركبها قوم : رموها بأثواب خفاف فلا ترى لها شبها إلا النعام المنفرا يعني رموها بأنفسهم فركبوها . وكما قال الهذلي . تبرأ من دم القتيل ووتره وقد علقت دم القتيل إزارها يعني بإزارها نفسها . وبذلك كان الربيع يقول : 2401 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا عبد الرحمن بن سعيد , قال : ثنا أبو جعفر , عن الربيع : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن يقول : هن لحاف لكم , وأنتم لحاف لهن . والوجه الآخر أن يكون جعل كل واحد منهما لصاحبه لباسا لأنه سكن له , كما قال جل ثناؤه : جعل لكم الليل لباسا 25 47 يعني بذلك سكنا تسكنون فيه . وكذلك زوجة الرجل سكنه يسكن إليها , كما قال تعالى ذكره : وجعل منها زوجها ليسكن إليها 7 189 فيكون كل واحد منهما لباسا لصاحبه , بمعنى سكونه إليه , وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك . وقد يقال لما ستر الشيء وواراه عن أبصار الناظرين إليه هو لباسه وغشاؤه , فجائز أن يكون قيل : هن لباس لكم , وأنتم لباس لهن , بمعنى أن كل واحد منكم ستر لصاحبه فيما يكون بينكم من الجماع عن أبصار سائر الناس . وكان مجاهد وغيره يقولون في ذلك بما : 2402 - حدثنا به المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن يقول : سكن لهن . 2403 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن قال قتادة : هن سكن لكم , وأنتم سكن لهن . 2404 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : هن لباس لكم يقول : سكن لكم , وأنتم لباس لهن يقول : سكن لهن . 2405 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال عبد الرحمن بن زيد في قوله : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن قال : المواقعة . 2406 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : ثنا أبو أحمد , قال : ثنا إبراهيم , عن يزيد , عن عمرو بن دينار , عن ابن عباس قوله : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن قال : هن سكن لكم , وأنتم سكن لهن .علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهنالقول في تأويل قوله تعالى : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن إن قال لنا قائل : وما هذه الخيانة التي كان القوم يختانونها أنفسهم التي تاب الله منها عليهم فعفا عنهم ؟ قيل : كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين : أحدهما جماع النساء , والآخر : المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حراما ذلك عليهم . كما : 2407 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن عمرو بن مرة , قال : ثنا ابن أبي ليلى : أن الرجل كان إذا أفطر فنام لم يأتها , وإذا نام لم يطعم , حتى جاء عمر بن الخطاب يريد امرأته فقالت امرأته : قد كنت نمت ! فظن أنها تعتل فوقع بها قال : وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم فقالوا : نسخن لك شيئا ؟ قال : ثم نزلت هذه الآية : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم الآية . 2408 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن إدريس , قال : ثنا حصين بن عبد الرحمن , عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر , فلما دخل رمضان كانوا يصومون , فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام لم يأكل إلى مثلها , وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها . فجاء شيخ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك , فقال لأهله : أطعموني ! فقالت : حتى أجعل لك شيئا سخنا , قال : فغلبته عينه فنام . ثم جاء عمر فقالت له امرأته : إني قد نمت ! فلم يعذرها وظن أنها تعتل فواقعها . فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرا وبطنا , فأنزل الله في ذلك : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وقال : فالآن باشروهن فعفا الله عن ذلك . وكانت سنة . 2409 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا يونس بن بكير , قال : ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة , عن عمرو بن مرة , عن عبد الرحمن بن أبي ليلى , عن معاذ بن جبل , قال : كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا , فإذا ناموا تركوا الطعام والشراب وإتيان النساء , فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صرمة يعمل في أرض له , قال : فلما كان عند فطره نام , فأصبح صائما قد جهد , فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما لي أرى بك جهدا " ؟ , فأخبره بما كان من أمره . واختان رجل نفسه في شأن النساء , فأنزل الله أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . .. إلى آخر الآية . 2410 - حدثنا سفيان بن وكيع , قال : حدثني أبي , عن إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن البراء - نحو حديث ابن أبي ليلى الذي حدث به عمرو بن مرة , عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - قال : كانوا إذا صاموا ونام أحدهم لم يأكل شيئا حتى يكون من الغد , فجاء رجل من الأنصار , وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكل , فغلبته عينه ونام , وأصبح من الغد مجهودا , فنزلت هذه الآية : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . 2411 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن رجاء البصري , قال : ثنا إسرائيل , عن أبي إسحاق , عن البراء , قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها , وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما , وكان توجه ذلك اليوم فعمل في أرضه , فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندكم طعام ؟ قالت : لا , ولكن أنطلق فأطلب لك . فغلبته عينه فنام , وجاءت امرأته قالت : قد نمت ! فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه , فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , فنزلت فيه هذه الآية : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى : من الخيط الأسود ففرحوا بها فرحا شديدا . 2412 - حدثني المثنى قال : ثنا أبو صالح , قال : ثنا معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة , ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء , منهم عمر بن الخطاب , فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأنزل الله : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن يعني انكحوهن وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . 2413 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن ابن لهيعة , قال : حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد . فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده , فوجد امرأته قد نامت فأرادها , فقالت : إني قد نمت ! فقال : ما نمت ! ثم وقع بها , وصنع كعب بن مالك مثل ذلك . فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره , فأنزل الله تعالى ذكره : علم الله أنكم كنتم تختالون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن . .. الآية . 2414 - حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج , قال : ثنا حماد بن سلمة , قال : ثنا ثابت : أن عمر بن الخطاب واقع أهله ليلة في رمضان , فاشتد ذلك عليه , فأنزل الله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . 2415 - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن إلى : وعفا عنكم كان الناس أول ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه , حتى إذا أمسى طعم من الطعام فيما بينه وبين العتمة , حتى إذا صليت حرم عليهم الطعام حتى يمسي من الليلة القابلة . وإن عمر بن الخطاب بينما هو نائم , إذ سولت له نفسه , فأتى أهله لبعض حاجته , فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشد ما رأيت من الملامة . ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنى أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة , فانها زينت لي فواقعت أهلي , هل تجد لي من رخصة يا رسول الله ؟ قال : " لم تكن حقيقا بذلك يا عمر " , فلما بلغ بيته , أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن , وأمر الله رسوله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة , فقال : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم يعني بذلك الذي فعل عمر بن الخطاب . فأنزل الله عفوه , فقال : فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن إلى : من الخيط الأسود فأحل لهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لهم الصبح . 2416 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم قال : كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصيام بالنهار , فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء , فإذا رقد حرم ذلك كله عليه إلى مثلها من القابلة . وكان منهم رجال يختانون أنفسهم في ذلك , فعفا الله عنهم , وأحل ذلك لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كله . 2417 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم في رمضان , فإذا أمسى , ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو وزاد فيه : وكان منهم رجال يختانون أنفسهم , وكان عمر بن الخطاب ممن اختان نفسه , فعفا الله عنهم , وأحل ذلك لهم بعد الرقاد وقبله , وفي الليل كله . 2418 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , قال : أخبرني إسماعيل بن شروس , عن عكرمة مولى ابن عباس : أن رجلا قد سماه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار جاء ليلة وهو صائم , فقالت له امرأته : لا تنم حتى نصنع لك طعاما ! فنام , فجاءت فقالت : نمت والله ! فقال : لا والله ! قالت : بلى والله ! فلم يأكل تلك الليلة وأصبح صائما , فغشي عليه ; فأنزلت الرخصة فيه . 2419 - حدثنا بشر , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم وكان بدء الصيام أمروا بثلاثة أيام من كل شهر ركعتين غدوة , وركعتين عشية , فأحل الله لهم في صيامهم - في ثلاثة أيام , وفي أول ما افترض عليهم في رمضان - إذا أفطروا وكان الطعام والشراب وغشيان النساء لهم حلالا ما لم يرقدوا , فإذا رقدوا حرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة . وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد , وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم , ثم أحل الله لهم ذلك الطعام والشراب وغشيان النساء إلى طلوع الفجر . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , عن قتادة في قوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم قال : كان الناس قبل هذه الآية إذا رقد أحدهم من الليل رقدة , لم يحل له طعام ولا شراب , ولا أن يأتي امرأته إلى الليلة المقبلة , فوقع بذلك بعض المسلمين , فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب , ومنهم من وقع على امرأته فرخص الله ذلك لهم . 2420 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي , قال : كتب على النصارى رمضان , وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم ولا ينكحوا النساء شهر رمضان , فكتب على المؤمنين كما كتب عليهم , فلم يزل المسلمون على ذلك يصنعون كما تصنع النصارى , حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة , وكان يعمل في حيطان المدينة بالأجر , فأتى أهله بتمر , فقال لامرأته : استبدلي بهذا التمر طحينا فاجعليه سخينة لعلي أن آكله , فإن التمر قد أحرق جوفي , فانطلقت فاستبدلت له , ثم صنعت , فأبطأت عليه فنام , فأيقظته , فكره أن يعصي الله ورسوله , وأبى أن يأكل , وأصبح صائما ; فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشي , فقال : " ما لك يا أبا قيس أمسيت طليحا " , فقص عليه القصة . وكان عمر بن الخطاب وقع على جارية له في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم ; فلما سمع عمر كلام أبي قيس رهب أن ينزل في أبي قيس شيء , فتذكر هو , فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : يا رسول الله إني أعوذ بالله إني وقعت على جاريتي , ولم أملك نفسي البارحة ! فلما تكلم عمر تكلم أولئك الناس , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما كنت جديرا بذلك يا ابن الخطاب " , فنسخ ذلك عنهم , فقال : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن , علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم يقول : إنكم تقعون عليهن خيانة , فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم يقول : جامعوهن ; ورجع إلى أبي قيس فقال : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . 2421 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم قال : كانوا في رمضان لا يمسون النساء ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتى الليل من القابلة , فإن مسوهن قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا . فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام , فقال : قد اختنت نفسي ! فنزل القرآن , فأحل لهم النساء والطعام والشراب حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . قال : وقال مجاهد : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم منهم في رمضان , فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء , فإذا رقد حرم عليه ذلك كله حتى كمثلها من القابلة , وكان منهم رجاله يختانون أنفسهم في ذلك . فعفا عنهم وأحل لهم بعد الرقاد وقبله في الليل , فقال : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . .. الآية . 2422 - حدثني القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , عن عكرمة أنه قال في هذه الآية : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم مثل قول مجاهد , وزاد فيه : أن عمر بن الخطاب قال لامرأته : لا ترقدي حتى أرجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فرقدت قبل أن يرجع , فقال لها : ما أنت براقدة ! ثم أصابها حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له , فنزلت هذه الآية . قال عكرمة : نزلت وكلوا واشربوا الآية في أبي قيس بن صرمة من بني الخزرج أكل بعد الرقاد . 2423 - حدثني المثنى , قال : ثنا الحجاج , قال : ثنا حماد , قال : أخبرنا محمد بن إسحاق , عن محمد بن يحيى بن حبان أن صرمة بن أنس أتى أهله ذات ليلة وهو شيخ كبير وهو صائم , فلم يهيئوا له طعاما , فوضع رأسه فأغفى , وجاءته امرأته بطعامه , فقالت له : كل ! فقال : إني قد نمت , قالت : إنك لم تنم ! فأصبح جائعا مجهودا , فأنزل الله : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فأما المباشرة في كلام العرب : فإنه ملاقاة بشرة ببشرة , وبشرة الرجل : جلدته الظاهرة . وإنما كنى الله بقوله : فالآن باشروهن عن الجماع : يقول : فالآن إذا أحللت لكم الرفث إلى نسائكم فجامعوهن في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر , وهي تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر , وبالذي قلنا في المباشرة قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : 2424 - حدثنا محمد بن بشار , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثنا سفيان . وحدثنا عبد الحميد بن سنان , قال : حدثنا إسحاق , عن سفيان . وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم , قال : ثنا أيوب بن سويد , عن سفيان , عن عاصم , عن بكر بن عبد الله المزني , عن ابن عباس , قال : المباشرة : الجماع , ولكن الله كريم يكني . * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن عاصم , عن بكر بن عبد الله المزني , عن ابن عباس نحوه . * - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الله بن صالح , ثنا معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس : فالآن باشروهن انكحوهن . * - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس قال : المباشرة : النكاح . 2425 - حدثنا القاسم , قال : ثنا الحسين , قال : حدثني حجاج , عن ابن جريج , قال : قلت لعطاء قوله : فالآن باشروهن قال : الجماع , وكل شيء في القرآن من ذكر المباشرة فهو الجماع نفسه , وقالها عبد الله بن كثير مثل قول عطاء في الطعام والشراب والنساء . * - حدثنا حميد بن مسعدة قال : ثنا يزيد بن زريع قال : وحدثنا ابن بشار , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن أبي بشر , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال : المباشرة الجماع , ولكن الله يكني ما شاء بما شاء . * - حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال : حدثنا هشيم , قال أبو بشر : أخبرنا , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس مثله . 2426 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : فالآن باشروهن يقول : جامعوهن . 2427 - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد , قال : المباشرة : الجماع . 2428 - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن ابن جريج , عن عطاء , مثله . * - حدثني المثنى , قال : ثنا سويد , قال : أخبرنا ابن المبارك , عن الأوزاعي , قال : حدثني عبدة بن أبي لبابة , قال : سمعت مجاهدا يقول : المباشرة في كتاب الله : الجماع . * - حدثنا ابن البرقي , ثنا عمرو بن أبي سلمة , قال : قال الأوزاعي : ثنا من سمع مجاهدا يقول : المباشرة في كتاب الله الجماع .وابتغوا ما كتب الله لكمواختلفوا في تأويل قوله وابتغوا ما كتب الله لكم فقال بعضهم : الولد . ذكر من قال ذلك : 2429 - حدثني عبدة بن عبد الله الصفار البصري , قال : ثنا إسماعيل بن زياد الكاتب , عن شعبة , عن الحكم , عن مجاهد : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : الولد . 2430 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا سهل بن يوسف وأبو داود , عن شعبة قال : سمعت الحكم : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : الولد . 2431 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا أبو تميلة , قال : ثنا عبيد الله , عن عكرمة قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : الولد . 2432 - حدثني علي بن سهل , قال : ثنا مؤمل , ثنا أبو مردود بحر بن موسى قال : سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في هذه الآية : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : الولد . 2433 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : وابتغوا ما كتب الله لكم فهو الولد . 2434 - حدثني محمد بن سعد , قال : ثنا أبي , قال : ثنا عمي , قال : ثنا أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : وابتغوا ما كتب الله لكم يعني الولد . 2435 - حدثني محمد بن عمرو , قال : ثنا أبو عاصم , قال : ثني عيسى , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : الولد , فإن لم تلد هذه فهذه . * - حدثني المثنى , قال : ثنا أبو حذيفة , قال : ثنا شبل , عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد بنحوه . * - حدثنا الحسن بن يحيى , أخبرنا عبد الرزاق , أخبرنا معمر , عمن سمع الحسن في قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : هو الولد . 2436 - حدثني المثنى , قال : ثنا إسحاق , قال : ثنا ابن أبي جعفر , عن أبيه , عن الربيع في قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : ما كتب لكم من الولد . 2437 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : الجماع . 2438 - حدثت عن الحسين بن الفرج , قال : ثنا الفضل بن خالد , قال : ثنا عبيد بن سلمان , قال : سمعت الضحاك بن مزاحم قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : الولد . وقال بعضهم : معنى ذلك ليلة القدر . ذكر من قال ذلك : 2439 - حدثنا أبو هشام الرفاعي , قال : ثنا معاذ بن هشام , قال : ثني أبي عن عمرو بن مالك , عن أبي الجوزاء عن ابن عباس : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : ليلة القدر . قال أبو هشام : هكذا قرأها معاذ . * - حدثني المثنى , قال : ثنا مسلم بن إبراهيم , قال : ثنا الحسن بن أبي جعفر , قال : ثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء , عن ابن عباس في قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم قال : ليلة القدر . وقال آخرون : بل معناه : ما أحله الله لكم ورخصه لكم . ذكر من قال ذلك : 2440 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد بن زريع , قال : ثنا سعيد , عن قتادة : وابتغوا ما كتب الله لكم يقول : ما أحله الله لكم . * - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا معمر , قال : قال قتادة في ذلك : ابتغوا الرخصة التي كتبت لكم . وقرأ ذلك بعضهم : واتبعوا ما كتب الله لكم ذكر من قال ذلك : 2441 - حدثنا الحسن بن يحيى , قال : أخبرنا عبد الرزاق , قال : أخبرنا ابن عيينة , عن عمرو بن دينار , عن عطاء بن أبي رباح , قال : قلت لابن عباس : كيف تقرأ هذه الآية : وابتغوا أو " واتبعوا " ؟ قال : أيتهما شئت . قال : عليك بالقراءة الأولى . والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى ذكره قال : وابتغوا بمعنى : اطلبوا ما كتب الله لكم , يعني الذي قضى الله تعالى لكم . وإنما يريد الله تعالى ذكره : اطلبوا الذي كتبت لكم في اللوح المحفوظ أنه يباح فيطلق لكم وطلب الولد إن طلبه الرجل بجماعه المرأة مما كتب الله له في اللوح المحفوظ , وكذلك إن طلب ليلة القدر , فهو مما كتب الله له , وكذلك إن طلب ما أحل الله وأباحه , فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ . وقد يدخل في قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم جميع معاني الخير المطلوبة , غير أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال معناه : وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد لأنه عقيب قوله : فالآن باشروهن بمعنى : جامعوهن ; فلأن يكون قوله : وابتغوا ما كتب الله لكم بمعنى : وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهن من الود والنسل أشبه بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل , ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم .وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجرالقول في تأويل قوله تعالى : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فقال بعضهم : يعني بقوله : الخيط الأبيض : ضوء النهار . وبقوله : الخيط الأسود : سواد الليل . فتأويله على قول قائل هذه المقالة : وكلوا بالليل في شهر صومكم , واشربوا , وباشروا نساءكم . مبتغين ما كتب الله لكم من الولد , من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوء النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده . ذكر من قال ذلك : 2442 - حدثني الحسن بن عرفة , قال : ثنا روح بن عبادة , قال : ثنا أشعث , عن الحسن في قول الله تعالى ذكره : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال : الليل من النهار . 2443 - حدثني موسى بن هارون , قال : ثنا عمرو بن حماد , قال : ثنا أسباط , عن السدي : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال : حتى يتبين لكم النهار من الليل . ثم أتموا الصيام إلى الليل . 2444 - حدثنا بشر بن معاذ , قال : ثنا يزيد , قال : ثنا سعيد , عن قتادة قوله : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل فهما علمان وحدان بينان فلا يمنعكم أذان مؤذن مراء أو قليل العقل من سحوركم فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل . وقد يرى بياض ما على السحر يقال له الصبح الكاذب كانت تسميه العرب , فلا يمنعكم ذلك من سحوركم , فإن الصبح لا خفاء به : طريقة معترضة في الأفق , وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح , فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا . 2445 - حدثني محمد بن سعد , قال : حدثني أبي , قال : حدثني عمي , قال : ثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر يعني الليل من النهار . فأحل لكم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لكم الصبح , فإذا تبين الصبح حرم عليهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتموا الصيام إلى الليل . فأمر بصوم النهار إلى الليل , وأمر بالإفطار بالليل . 2446 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو بكر بن عياش , وقيل له : أرأيت قول الله تعالى : الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ؟ قال : " إنك لعريض القفا " , قال : هذا ذهاب الليل ومجيء النهار . قيل له : الشعبي عن عدي بن حاتم ؟ قال : نعم , حدثنا حصين . وعلة من قال هذه المقالة وتأول الآية هذا التأويل ما : 2447 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا حفص بن غياث , عن مجالد بن سعيد , عن الشعبي , عن عدي بن حاتم , قال : قلت يا رسول الله , قول الله : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال : " هو بياض النهار وسواد الليل " 2448 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان , عن مجالد , عن سعيد , عن عامر , عن عدي بن حاتم , قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمني الإسلام , ونعت لي الصلوات , كيف أصلي كل صلاة لوقتها , ثم قال : " إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر , ثم أتم الصيام إلى الليل " , ولم أدر ما هو , ففعلت خيطين من أبيض وأسود , فنظرت فيهما عند الفجر , فرأيتهما سواء . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظت , غير الخيط الأبيض من الخيط الأسود , قال : " وما منعك يا ابن حاتم ؟ " وتبسم كأنه قد علم ما فعلت . قلت : فتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رئي نواجذه , ثم قال : " ألم أقل لك من الفجر ؟ إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل " . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا مالك بن إسماعيل , قال : ثنا داود وابن علية جميعا , عن مطرف , عن الشعبي , عن عدي بن حاتم , قال : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود , أهما خيطان أبيض وأسود ؟ فقال : وإنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين " , ثم قال : " لا ولكنه سواد الليل وبياض النهار " . 2449 - حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي , قال : ثنا ابن أبي مريم , قال : ثنا أبو غسان , قال : ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد , قال : نزلت هذه الآية : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود فلم ينزل من الفجر قال : فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض , فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له ; فأنزل الله بعد ذلك : من الفجر فعلموا إنما يعني بذلك : الليل والنهار . وقال متأولو قول الله تعالى ذكره : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر أنه بياض النهار وسواد الليل , صفة ذلك البياض أن يكون منتشرا مستفيضا في السماء يملأ بياضه وضوءه الطرق , فأما الضوء الساطع في السماء فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله : الخيط الأبيض من الخيط الأسود . ذكر من قال ذلك : 2450 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني , قال : ثنا معتمر بن سليمان , قال : سمعت عمران بن حدير , عن أبي مجلز : الضوء الساطع في السماء ليس بالصبح , ولكن ذاك الصبح الكذاب , إنما الصبح إذا انفضح الأفق . 2451 - حدثني سلم بن جنادة السوائي , قال : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن مسلم , قال : لم يكونوا يعدون الفجر فجركم هذا , كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا عثام , عن الأعمش , عن مسلم : ما كانوا يرون إلا أن الفجر الذي يستفيض في السماء . 2452 - حدثنا الحسن بن عرفة , قال : ثنا روح بن عبادة , قال : ثنا ابن جريج , قال : أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول : هما فجران , فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا , ولكن الفجر الذي يستبين على رءوس الجبال هو الذي يحرم الشراب . 2453 - حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي , قال : ثنا أبو أسامة , عن محمد بن أبي ذؤيب , عن الحرث بن عبد الرحمن , عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان , قال : " الفجر فجران , فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا , وأما المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الصوم " . 2454 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا وكيع وإسماعيل بن صبيح وأبو أسامة , عن أبي هلال , عن سوادة بن حنظلة , عن سمرة بن جندب , قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل , ولكن الفجر المستطير في الأفق " . 2455 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا معاوية بن هشام الأسدي , قال : ثنا شعبة , عن سوادة قال : سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول : " لا يغرنكم نداء بلال ولا هذا البياض حتى يبدو الفجر وينفجر " . وقال آخرون : الخيط الأبيض : هو ضوء الشمس , والخيط الأسود : هو سواد الليل . ذكر من قال ذلك : 2456 - حدثنا هشام بن السري , قال : ثنا عبادة بن حميد , عن الأعمش , عن إبراهيم التيمي , قال : سافر أبي مع حذيفة قال : فسار حتى إذا خشينا أن يفجأنا الفجر , قال : هل منكم من أحد آكل أو شارب ؟ قال : قلت له : أما من يريد الصوم فلا . قال : بلى ! قال : ثم سار حتى إذا استبطأنا الصلاة نزل فتسحر . 2457 - حدثنا هناد وأبو السائب , قالا : ثنا أبو معاوية , عن الأعمش , عن إبراهيم التيمي , عن أبيه , قال : خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان , فلما طلع الفجر , قال : هل منكم من أحد آكل أو شارب ؟ قلنا : أما رجل يريد أن يصوم فلا . قال : لكني ! قال : ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة , قال : هل منكم أحد يريد أن يتسحر ؟ قال : قلنا أما من يريد الصوم فلا . قال : لكني ! ثم نزل فتسحر , ثم صلى . 2458 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو بكر , قال : ربما شربت بعد قول المؤذن - يعني في رمضان - قد قامت الصلاة . قال : وما رأيت أحدا كان أفعل له من الأعمش , وذلك لما سمع , قال : حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا مع حذيفة نسير ليلا , فقال : هل منكم متسحر الساعة ؟ قال : ثم سار , ثم قال حذيفة : هل منكم متسحر الساعة ؟ قال : ثم سار حتى استبطأنا الصلاة , قال : فنزل فتسحر . 2459 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني , قال : ثنا مصعب بن المقدام , قال : ثنا إسرائيل , قال : ثنا أبو إسحاق عن هبيرة , عن علي , أنه لما صلى الفجر , قال : هذا حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . 2460 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا ابن الصلت , قال : ثنا إسحاق بن حذيفة العطار , عن أبيه , عن البراء , قال : تسحرت في شهر رمضان , ثم خرجت , فأتيت ابن مسعود , فقال : اشرب ! فقلت : إني قد تسحرت . فقال : اشرب ! فشربنا ثم خرجنا والناس في الصلاة . 2461 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو معاوية , عن الشيباني , عن جبلة بن سحيم , عن عامر بن مطر , قال أتيت عبد الله بن مسعود في داره , فأخرج فضلا من سحوره , فأكلنا معه , ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا . 2462 - حدثنا خلاد بن أسلم , قال : ثنا أبو بكر بن عياش , عن أبي إسحاق , عن عبد الله بن معقل , عن سالم مولى أبي حذيفة قال , كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد في رمضان , فأتيت ذات ليلة فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأومأ بيده أن كف , ثم أتيته مرة أخرى , فقلت له : ألا تأكل يا خليفة رسول الله ؟ فأومأ بيده أن كف . ثم أتيته مرة أخرى , فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله ؟ فنظر إلى الفجر ثم أومأ بيده أن كف . ثم أتيته فقلت : ألا تأكل يا خليفة رسول الله ؟ قال , هات غذاءك ! قال : فأتيته به فأكل ثم صلى ركعتين , ثم قام إلى الصلاة . 2463 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا عبد الرحمن بن مهدي , قال : ثنا شعبة , عن مغيرة , عن إبراهيم , قال : الوتر بالليل والسحور بالنهار . وقد روي عن إبراهيم غير ذلك . 2464 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , عن حماد , عن إبراهيم , قال : السحور بليل , والوتر بليل . 2465 - حدثنا حكام عن ابن أبي جعفر , عن المغيرة , عن إبراهيم , قال : السحور والوتر ما بين التثويب والإقامة . 2466 - حدثنا ابن المثنى , قال : ثنا محمد بن جعفر , قال : ثنا شعبة , عن شبيب بن غرقدة , عن عروة , عن حبان , قال : تسحرنا مع علي ثم خرجنا وقد أقيمت الصلاة فصلينا . 2467 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا مؤمل , قال : ثنا سفيان , عن شبيب , عن حبان بن الحرث , قال : مررت بعلي وهو في دار أبي موسى وهو يتسحر , فلما انتهيت إلى المسجد أقيمت الصلاة . * - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا جرير , عن منصور , عن أبي إسحاق , عن أبي السفر , قال : صلى علي بن أبي طالب الفجر , ثم قال : هذا حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر . وعلة من قال هذا القول أن القول إنما هو النهار دون الليل . قالوا : وأول النهار طلوع الشمس , كما أن آخره غروبها . قالوا : ولو كان أوله طلوع الفجر لوجب أن يكون آخره غروب الشفق . قالوا : وفي إجماع الحجة على أن آخر النهار غروب الشمس دليل واضح , على أن أوله طلوعها . قالوا : وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طلوع الفجر أوضح الدليل على صحة قولنا . ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك : 2468 - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو بكر , عن عاصم , عن زر , عن حذيفة , قال : قلت : تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم , قال : لو أشاء لأقول هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع . * - حدثنا أبو كريب , قال : ثنا أبو بكر , قال : ما كذب عاصم على زر , ولا زر على حذيفة , قال : قلت له : يا أبا عبد الله تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع . 2469 - حدثنا ابن بشار , قال : ثنا مؤمل , قال : ثنا سفيان , عن عاصم , عن زر , عن حذيفة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحر وما أرى مواقع النبل . قال : قلت أبعد الصبح ؟ قال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس . 2470 - حدثنا ابن حميد , قال : حدثنا الحكم بن بشير , قال : حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار , عن عاصم بن بهدلة , عن زر بن حبيش , قال : أصبحت ذات يوم فغدوت إلى المسجد , فقلت : لو مررت على باب حذيفة ! ففتح لي فدخلت , فإذا هو يسخن له طعام , فقال : اجلس حتى تطعم ! فقلت : إني أريد الصوم . فقرب طعامه فأكل وأكلت معه , ثم قام إلى لقحة في الدار , فأخذ يطلب من جانب وأحلب أنا من جانب , فناولني , فقلت : ألا ترى الصبح ؟ فقال : اشرب ! فشربت , ثم جئت إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة , فقلت له : أخبرني بآخر سحور تسحرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس . 2471 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي , قال : ثنا روح بن جنادة , قال : ثنا حماد , عن محمد بن عمرو , عن أبي سلمة , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه " . 2472 - حدثنا أحمد بن إسحاق , قال : ثنا روح بن جنادة , قال : ثنا حماد , عن عمار بن أبي عمار , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله , وزاد فيه : وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر . 2473 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , قال : ثنا الحسين . وحدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق , قال : سمعت أبي قال : أخبرنا الحسين بن واقد قالا جميعا , عن أبي غالب , عن أبي أمامة قال : أقيمت الصلاة والإناء في يد عمر , قال : أشربها يا رسول الله ؟ قال : " نعم " , فشربها . 2474 - حدثنا ابن حميد , قال : ثنا يحيى بن واضح , قال : ثنا يونس , عن أبيه , عن عبد الله , قال : قال بلال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أؤذنه بالصلاة وهو يريد الصوم , فدعا بإناء فشرب , ثم ناولني فشربت , ثم خرج إلى الصلاة . * - حدثني محمد بن أحمد الطوسي , قال : ثنا عبيد الله بن موسى , قال : أخبرنا إسرائيل , عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مغفل , عن بلال قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أوذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام , فدعا بإناء فشرب , ثم ناولني فشربت , ثم خرجنا إلى الصلاة . وأولى التأويلين بالآية , التأويل الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " الخيط الأبيض : بياض النهار , والخيط الأسود : سواد الليل " وهو المعروف في كلام العرب , قال أبو دؤاد الإيادي : فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا وأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرب أو تسحر ثم خرج إلى الصلاة , فإنه غير دافع صحة ما قلنا في ذلك ; لأنه غير مستنكر أن يكون صلى الله عليه وسلم شرب قبل الفجر , ثم خرج إلى الصلاة , إذ كانت الصلاة صلاة الفجر هي على عهده كانت تصلى بعد ما يطلع الفجر ويتبين طلوعه ويؤذن لها قبل طلوعه . وأما الخبر الذي روي عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسحر وأنا أرى مواقع النبل , فإنه قد استثبت فيه , فقيل له : أبعد الصبح ؟ فلم يجب في ذلك بأنه كان بعد الصبح , ولكنه قال : هو الصبح . وذلك من قوله يحتمل أن يكون معناه هو الصبح لقربه منه وإن لم يكن هو بعينه , كما تقول العرب : " هذا فلان شبها " , وهي تشير إلى غير الذي سمته , فتقول : " هو هو " تشبيها منها له به , فكذلك قول حذيفة : هو الصبح , معناه : هو الصبح شبها به وقربا منه . وقال ابن زيد في معنى الخيط الأبيض والأسود ما : 2475 - حدثني به يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قال : الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل يكشف الليل , والأسود : ما فوقه . وأما قوله : من الفجر فإنه تعالى ذكره يعني : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود الذي هو من الفجر . وليس ذلك هو جميع الفجر , ولكنه إذا تبين لكم أيها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل , فمن حينئذ فصوموا , ثم أتموا صيامكم من ذلك إلى الليل . وبمثل ما قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول : 2476 - حدثني يونس , قال : أخبرنا ابن وهب , قال : قال ابن زيد في قوله : من الفجر قال : ذلك الخيط الأبيض هو من الفجر نسبة إليه , وليس الفجر كله , فإذا جاء هذا الخيط وهو أوله فقد حلت الصلاة وحرم الطعام والشراب على الصائم . وفي قوله تعالى ذكره : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل أوضح الدلالة على خطأ قول من قال : حلال الأكل والشرب لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس ; لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر , وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدا لمن لزمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة . فمن زعم أن له أن يتجاوز ذلك الحد , قيل له : أرأيت إن أجاز له آخر ذلك ضحوة أو نصف النهار ؟ فإن قال : إن قائل ذلك مخالف للأمة قيل له : وأنت لما دل عليه كتاب الله ونقل الأمة مخالف , فما الفرق بينك وبينه من أصل أو قياس ؟ فإن قال : الفرق بيني وبينه أن الله أمر بصوم النهار دون الليل , والنهار من طلوع الشمس . قيل له : كذلك يقول مخالفوك : والنهار عندهم أوله طلوع الفجر , وذلك هو ضوء الشمس وابتداء طلوعها دون أن يتتام طلوعها , كما أن آخر النهار ابتداء غروبها دون أن يتتام غروبها . ويقال لقائلي ذلك : إن كان النهار عندكم كما وصفتم هو ارتفاع الشمس , وتكامل طلوعها وذهاب جميع سدفة الليل وغبس سواده , فكذلك عندكم الليل هو تتام غروب الشمس وذهاب ضيائها وتكامل سواد الليل وظلامه . فإن قالوا : ذلك كذلك . قيل لهم : فقد يجب أن يكون الصوم إلى مغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء . فإن قالوا : ذلك كذلك , أوجبوا الصوم إلى مغيب الشفق الذي هو بياض . وذلك قول إن قالوه مدفوع بنقل الحجة التي لا يجوز فيما نقلته مجمعة عليه الخطأ والسهو على تخطئته . وإن قالوا : بل أول الليل ابتداء سدفته وظلامه ومغيب عين الشمس عنا . قيل لهم : وكذلك أول النهار : طلوع أول ضياء الشمس ومغيب أوائل سدفة الليل . ثم يعكس عليه القول في ذلك , ويسأل الفرق بين ذلك , فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله . وأما الفجر , فإنه مصدر من قول القائل : تفجر الماء يتفجر فجرا : إذا انبعث وجرى , فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلع الشمس فجر , لانبعاث ضوئه عليهم وتورده عليم بطرقهم ومحاجهم تفجر الماء المنفجر من منبعه .ثم أتموا الصيام إلى الليلوأما قوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل فإنه تعالى ذكره حد الصوم بأن آخر وقته إقبال الليل , كما حد الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع وأول الصوم بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل , فدل بذلك على أن لا صوم بالليل كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم , وعلى أن المواصل مجوع نفسه في غير طاعة ربه . كما : 2477 - حدثنا هناد , قال : ثنا أبو معاوية ووكيع وعبدة , عن هشام بن عروة , عن أبيه , عن عاصم بن عمر , عن عمر , قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم " . 2478 - حدثنا هناد , قال : ثنا أبو بكر بن عياش , قال : ثنا أبو إسحاق الشيباني , وحدثنا هناد بن السري , قال : ثنا أبو عبيدة وأبو معاوية , عن شيبان , وحدثنا ابن المثنى , قال : ثنا أبو معاوية , وحدثني أبو السائب , قال : ثنا ابن إدريس , عن الشيباني قالوا جميعا في حديثهم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير وهو صائم , فلما غربت الشمس قال لرجل : " انزل فاجدل لي " قالوا : لو أمسيت يا رسول الله ! فقال : " انزل فاجدح لي ! " فقال الرجل : يا رسول الله لو أمسيت ! قال : " انزل فاجدح لي ! " قال : يا رسول الله إن علينا نهارا ! فقال له الثالثة , فنزل فجدح له . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من ههنا " - وضرب بيده نحو المشرق - " فقد أفطر الصائم " . 2479 - حدثنا محمد بن المثنى , قال : ثنا عبد الوهاب , قال : ثنا داود , عن رفيع , قال : فرض الله الصيام إلى الليل , فإذا جاء الليل فأنت مفطر إن شئت فكل , وإن شئت فلا تأكل . 2480 - حدثني المثنى , قال : ثنا عبد الأعلى , قال : ثنا داود , عن أبي العالية أنه سئل عن الوصال في الصوم فقال : افترض الله على هذه الأمة صوم النهار , فإذا جاء الليل فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل . * - حدثني يعقوب , قال : حدثني ابن علية , عن داود بن أبي هند , قال : قال أبو العالية في الوصال في الصوم , قال : قال الله : ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا جاء الليل فهو مفطر , فإن شاء أكل , وإن شاء لم يأكل . 2481 - حدثني المثنى , قال : ثنا ابن دكين , عن مسعر , عن قتادة , قال : قالت عائشة : أتموا الصيام إلى الليل يعني أنها كرهت الوصال . فإن قال قائل : فما وجه وصال من واصل ؟ فقد علمت بما : 2482 - حدثكم به أبو السائب , قال : ثنا حفص , عن هشام بن عروة , قال : كان عبد الله بن الزبير يواصل سبعة أيام , فلما كبر جعلها خمسا , فلما كبر جدا جعلها ثلاثا . 2483 - حدثنا أبو السائب , قال : ثنا حفص , عن عبد الملك , قال : كان ابن أبي يعمر يفطر في كل شهر مرة . 2484 - حدثنا ابن أبي بكر المقدمي , قال : ثنا الفروي , قال : سمعت مالكا يقول : كان عامر بن عبد الله بن الزبير يواصل ليلة ست عشرة وليلة سبع عشرة من رمضان لا يفطر بينهما , فلقيته فقلت له : يا أبا الحرث ماذا تجده يقويك في وصالك ؟ قال : السمن أشربه أجده يبل عروقي , فأما الماء فإنه يخرج من جسدي . وما أشبه ذلك ممن فعل ذلك , ممن يطول بذكرهم الكتاب . قيل : وجه من فعل ذلك إن شاء الله تعالى على طلب الخموصة لنفسه والقوة , لا على طلب البر بفعله . وفعلهم ذلك نظير ما كان عمر بن الخطاب يأمرهم به بقوله : " اخشوشنوا وتمعددوا وانزوا على الخيل نزوا وا
﴿ أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون ﴾