فذهب موسى والخَضِر حتى أتيا أهل قرية، فطلبا منهم طعامًا على سبيل الضيافة، فامتنع أهل القرية عن ضيافتهما، فوجدا فيها حائطًا مائلا يوشك أن يسقط، فعدَّل الخَضِر مَيْلَه حتى صار مستويًا، قال له موسى: لو شئت لأخذت على هذا العمل أجرًا تصرفه في تحصيل طعامنا حيث لم يضيفونا.
﴿ تفسير الجلالين ﴾
«فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية» هي أنطاكية «استطعما أهلها» طلبا منهم الطعام بضيافة «فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا» ارتفاعه مائة ذراع «يريد أن ينقضَّ» أي يقرب أن يسقط لميلانه «فأقامه» الخضر بيده «قال» له موسى «لو شئت لاتخذت» وفي قراءة لتخذت «عليه أجرا» جُعْلاً حيث لم يضيفونا مع حاجتنا إلى الطعام.
﴿ تفسير السعدي ﴾
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ْ أي: استضافاهم، فلم يضيفوهما فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ْ أي: قد عاب واستهدم فَأَقَامَهُ ْ الخضر أي: بناه وأعاده جديدا. فقال له موسى: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ْ أي: أهل هذه القرية، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم، وأنت تبنيه من دون أجرة، وأنت تقدر عليها؟. فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال، واستعذر الخضر منه
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية ) قال ابن عباس : يعني : " أنطاكية " وقال ابن سيرين : هي " الأبلة " وهي أبعد الأرض من السماء وقيل : " برقة " . وعن أبي هريرة : بلدة بالأندلس ( استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما )قال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما فطافا في المجالس فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما " .وروي أنهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافوهم فلم يضيفوهما .قال قتادة : شر القرى التي لا تضيف الضيف .وروي عن أبي هريرة قال : أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعا لنسائهم ولعن رجالهم .قوله تعالى : ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ) أي يسقط وهذا من مجاز كلام العرب لأن الجدار لا إرادة له وإنما معناه : قرب ودنا من السقوط كما تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها .( فأقامه ) أي سواه وروي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الخضر بيده فأقامه .وقال سعيد بن جبير : مسح الجدار بيده فاستقام وروي عن ابن عباس : هدمه ثم قعد يبنيه وقال السدي : بل طينا وجعل يبني الحائط .( قال ) موسى ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : " لتخذت " بتخفيف التاء وكسر الخاء وقرأ الآخرون : " لتخذت " بتشديد التاء وفتح الخاء وهما لغتان مثل اتبع وتبع ( عليه ) يعني على إصلاح الجدار ( أجرا ) يعني جعلا معناه : إنك قد علمت أننا جياع وأن أهل القرية لم يطعمونا فلو أخذت على عملك أجرا .
﴿ تفسير الوسيط ﴾
أى: فانطلق موسى والخضر- عليهما السلام- يتابعان سيرهما. حتى إذا أتيا أهل قرية قيل هي «أنطاكيه» ، وقيل: هي قرية بأرض الروم.اسْتَطْعَما أَهْلَها والاستطعام: سؤال الطعام. والمراد به هنا سؤال الضيافة لأنه هو المناسب لمقام موسى والخضر- عليهما السلام- ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما يشهد له.أى: فأبى وامتنع أهل تلك القرية عن قبول ضيافتهما بخلا منهم وشحا.وقوله- تعالى- فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ معطوف على أَتَيا أى: وبعد أن امتنع أهل القرية عن استضافتهما، تجولا فيها فَوَجَدا فِيها جِداراً أى:بناء مرتفعا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أى: ينهدم ويسقط فَأَقامَهُ أى الخضر بأن سواه وأعاد إليه اعتداله، أو بأن نقضه وأخذ في بنائه من جديد.وهنا لم يتمالك موسى- عليه السلام- مشاعره، لأنه وجد نفسه أمام حالة متناقضة، قوم بخلاء أشحاء لا يستحقون العون.. ورجل يتعب نفسه في إقامة حائط مائل لهم.. هلا طلب منهم أجرا على هذا العمل الشاق، خصوصا وهما جائعان لا يجدان مأوى لهما في تلك القرية! لذا بادر موسى- عليه السلام- ليقول للخضر: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً.أى: هلا طلبت أجرا من هؤلاء البخلاء على هذا العمل، حتى تنتفع به. وأنت تعلم أننا جائعان وهم لم يقدموا لنا حق الضيافة.فالجملة الكريمة تحريض من موسى للخضر على أخذ الأجر على عمله، ولوم له على ترك هذا الأجر مع أنهما في أشد الحاجة إليه.
﴿ تفسير ابن كثير ﴾
يقول تعالى مخبرا عنهما : إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين ( حتى إذا أتيا أهل قرية ) روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة وفي الحديث : " حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما " أي بخلاء ( فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض ) إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة ، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل . والانقضاض هو : السقوط .وقوله : ( فأقامه ) أي : فرده إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ، ودعمه حتى رد ميله . وهذا خارق فعند ذلك قال موسى له ( لو شئت لاتخذت عليه أجرا ) أي : لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا
﴿ تفسير القرطبي ﴾
قوله : فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا فيه ثلاث عشرة مسألة :الأولى : قوله تعالى : حتى إذا أتيا أهل قرية في صحيح مسلم عن أبي بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : لئاما ; فطافا في المجالس ف استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض يقول : مائل قال : فأقامه الخضر بيده قال له موسى : قوم أتيناهم فلم يضيفونا ، ولم يطعمونا لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يرحم الله موسى لوددت أنه كان صبر حتى يقص علينا من أخبارهما .الثانية : واختلف العلماء في القرية فقيل : هي أبلة ; قاله قتادة ، وكذلك قال محمد بن سيرين ، وهي أبخل قرية وأبعدها من السماء وقيل : أنطاكية وقيل : بجزيرة الأندلس ; روي ذلك عن أبي هريرة وغيره ، ويذكر أنها الجزيرة الخضراء وقالت فرقة : هي باجروان وهي بناحية أذربيجان وحكى السهيلي وقال : إنها برقة . الثعلبي : هي قرية من قرى الروم يقال لها ناصرة ، وإليها تنسب النصارى ; وهذا كله بحسب الخلاف في أي ناحية من الأرض كانت قصة موسى والله أعلم بحقيقة ذلك .الثالثة : كان موسى - عليه السلام - حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر ; ولم يسأل قوتا بل سقى ابتداء ، وفي القرية سأل القوت ; وفي ذلك للعلماء انفصالات كثيرة ; منها أن موسى كان في حديث مدين منفردا وفي قصة الخضر تبعا لغيره .قلت : وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا فأصابه الجوع مراعاة لصاحبه يوشع ; والله أعلم .وقيل : لما كان هذا سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة ، وكان ذلك سفر هجرة فوكل إلى العون والنصرة بالقوت .الرابعة : في هذه الآية دليل على سؤال القوت ، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد جوعه خلافا لجهال المتصوفة والاستطعام سؤال الطعام ، والمراد به هنا سؤال الضيافة . بدليل قوله : فأبوا أن يضيفوهما فاستحق أهل القرية لذلك أن يذموا ، وينسبوا إلى اللؤم والبخل ، كما وصفهم بذلك نبينا - عليه الصلاة والسلام - قال قتادة في هذه الآية : شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه . ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة ، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة ، وهذا هو الأليق بحال الأنبياء ، ومنصب الفضلاء والأولياء وقد تقدم القول في الضيافة في " هود " والحمد لله .ويعفو الله عن الحريري حيث استخف في هذه الآية وتمجن ، وأتى بخطل من القول وزل ; فاستدل بها على الكدية والإلحاح فيها ، وأن ذلك ليس بمعيب على فاعله ، ولا منقصة عليه ; فقال :وإن رددت فما في الرد منقصة عليك قد رد موسى قبل والخضرقلت : وهذا لعب بالدين ، وانسلال عن احترام النبيين ، وهي شنشنة أدبية ، وهفوة سخافية ; ويرحم الله السلف الصالح ، فلقد بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح ، فقالوا : مهما كنت لاعبا بشيء فإياك أن تلعب بدينك .الخامسة : قوله تعالى : جدارا الجدار والجدر بمعنى واحد ; وفي الخبر : ( حتى يبلغ الماء الجدر ) . ومكان جدير بني حواليه جدار ، وأصله الرفع وأجدرت الشجرة طلعت ; ومنه الجدري .السادسة : قوله تعالى : يريد أن ينقض أي قرب أن يسقط ، وهذا مجاز وتوسع وقد فسره في الحديث بقوله : ( مائل ) فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن ، وهو مذهب الجمهور . وجميع الأفعال التي حقها أن تكون للحي الناطق متى أسندت إلى جماد أو بهيمة فإنما هي استعارة ، أي لو كان مكانهما إنسان لكان متمثلا لذلك الفعل ، وهذا في كلام العرب وأشعارها كثير ; فمن ذلك قول الأعشى :أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتلفأضاف النهي إلى الطعن . ومن ذلك قول الآخر :يريد الرمح صدر أبي براء ويرغب عن دماء بني عقيلوقال آخر :إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسانوقال آخر :في مهمه فلقت به هاماتها فلق الفؤوس إذا أردن نصولاأي ثبوتا في الأرض ; من قولهم : نصل السيف إذا ثبت في الرمية ; فشبه وقع السيوف على رءوسهم بوقع الفؤوس في الأرض فإن الفأس يقع فيها ويثبت لا يكاد يخرج . وقال حسان بن ثابت :لو أن اللؤم ينسب كان عبدا قبيح الوجه أعور من ثقيفوقال عنترة :فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحموقد فسر هذا المعنى بقوله :لو كان يدري ما المحاورة اشتكىوهذا في هذا المعنى كثير جدا ومنه قول الناس : إن داري تنظر إلى دار فلان وفي الحديث : اشتكت النار إلى ربها وذهب قوم إلى منع المجاز في القرآن ، منهم أبو إسحاق الإسفراييني وأبو بكر محمد بن داود الأصبهاني وغيرهما ، فإن كلام الله - عز وجل - وكلام رسوله حمله على الحقيقة أولى بذي الفضل والدين ; لأنه يقص الحق كما أخبر الله - تعالى - في كتابه ،ومما احتجوا به أن قالوا : لو خاطبنا الله - تعالى - بالمجاز لزم وصفه بأنه متجوز أيضا ، فإن العدول عن الحقيقة إلى المجاز يقتضي العجز عن الحقيقة ، وهو على الله - تعالى - محال ; قال الله - تعالى - : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقال - تعالى - : وتقول هل من مزيد وقال - تعالى - : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وقال - تعالى - : تدعو من أدبر وتولى و اشتكت النار إلى ربها واحتجت النار والجنة وما كان مثلها حقيقة ، وأن خالقها الذي أنطق كل شيء أنطقها . وفي صحيح مسلم من حديث أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيختم على فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه . هذا في الآخرة .وأما في الدنيا ; ففي الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنسان وحتى تكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله وتخبره فخذه بما أحدث أهله من بعده قال أبو عيسى : وفي الباب عن أبي هريرة ، وهذا حديث حسن غريب .السادسة : قوله تعالى : فأقامه قيل : هدمه ثم قعد يبنيه .فقال موسى للخضر : قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا لأنه فعل يستحق أجرا ، وذكر أبو بكر الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه " قال أبو بكر : وهذا الحديث إن صح سنده فهو جار من الرسول - عليه الصلاة والسلام - مجرى التفسير للقرآن ، وأن بعض الناقلين أدخل تفسير قرآن في موضع فسرى أن ذلك قرآن نقص من مصحف عثمان ; على ما قاله بعض الطاعنين ، وقال سعيد بن جبير : مسحه بيده وأقامه فقام ، وهذا القول هو الصحيح ، وهو الأشبه بأفعال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، بل والأولياء ، وفي بعض الأخبار : إن سمك ذلك الحائط كان ثلاثين ذراعا بذراع ذلك القرن ، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع ، وعرضه خمسون ذراعا ، فأقامه الخضر - عليه السلام - أي سواه بيده فاستقام ; قاله الثعلبي في كتاب العرائس : فقال موسى للخضر لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي طعاما تأكله ; ففي هذا دليل على كرامات الأولياء ، وكذلك ما وصف من أحوال الخضر - عليه السلام - في هذا الباب كلها أمور خارقة للعادة ; هذا إذا تنزلنا على أنه ولي لا نبي .وقوله - تعالى - : وما فعلته عن أمري يدل علي نبوته وأنه يوحى إليه بالتكليف والأحكام ، كما أوحي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير أنه ليس برسول ; والله أعلم .الثامنة : واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحت جدار مائل يخاف سقوطه ، بل يسرع في المشي إذا كان مارا عليه ; لأن في حديث النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا مر أحدكم بطربال مائل فليسرع المشي . قال أبو عبيد القاسم بن سلام : كان أبو عبيدة يقول : الطربال شبيه بالمنظرة من مناظر العجم كهيئة الصومعة ; والبناء المرتفع ; قال جرير :ألوى بها شذب العروق مشذب فكأنما وكنت على طرباليقال منه : وكن يكن إذا جلس ، وفي الصحاح : الطربال القطعة العالية من الجدار ، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل ، وطرابيل الشام صوامعها . ويقال : طربل بوله إذا مده إلى فوق .التاسعة : كرامات الأولياء ثابتة ، على ما دلت عليه الأخبار الثابتة ، والآيات المتواترة ، ولا ينكرها إلا المتبدع الجاحد ، أو الفاسق الحائد ; فالآيات ما أخبر الله - تعالى - في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف ، والصيفية في الشتاء - على ما تقدم - وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت ، وهي ليست بنبية ; على الخلاف ويدل عليها ما ظهر على يد الخضر - عليه السلام - من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار . قال بعض العلماء : ولا يجوز أن يقال كان نبيا ; لأن إثبات النبوة لا يجوز بأخبار الآحاد ، لا سيما وقد روي من طريق التواتر - من غير أن يحتمل تأويلا - بإجماع الأمة قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا نبي بعدي وقال - تعالى - : وخاتم النبيين والخضر وإلياس جميعا باقيان مع هذه الكرامة ، فوجب أن يكونا غير نبيين ، لأنهما لو كانا نبيين لوجب أن يكون بعد نبينا - عليه الصلاة والسلام - نبي ، إلا ما قامت الدلالة في حديث عيسى أنه ينزل بعده .قلت : الخضر كان نبيا - على ما تقدم - وليس بعد نبينا - عليه الصلاة والسلام - نبي ، أي يدعي النبوة بعده أبدا ; والله أعلم .العاشرة : اختلف الناس هل يجوز أن يعلم الولي أنه ولي أم لا ؟ على قولين : [ أحدهما ] أنه لا يجوز ; وأن ما يظهر على يديه يجب أن يلاحظه بعين خوف المكر ، لأنه لا يأمن أن يكون مكرا واستدراجا له ; وقد حكي عن السري أنه كان يقول : لو أن رجلا دخل بستانا فكلمه من رأس كل شجرة طير بلسان فصيح : السلام عليك يا ولي الله فلو لم يخف أن يكون ذلك مكرا لكان ممكورا به ; ولأنه لو علم أنه ولي لزال عنه الخوف ، وحصل له الأمن . ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة ، كما قال - عز وجل - : تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا ولأن الولي من كان مختوما له بالسعادة ، والعواقب مستورة ولا يدري أحد ما يختم له به ; ولهذا قال - عليه الصلاة والسلام - : إنما الأعمال بالخواتيم . [ القول الثاني ] أنه يجوز للولي أن يعلم أنه ولي ; ألا ترى أن النبي - عليه الصلاة والسلام - يجوز أن يعلم أنه ولي ، ولا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه ولي الله - تعالى - ، فجاز أن يعلم ذلك . وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - من حال العشرة من أصحابه أنهم من أهل الجنة ، ثم لم يكن في ذلك زوال خوفهم ، بل كانوا أكثر تعظيما لله - سبحانه وتعالى - ، وأشد خوفا وهيبة ; فإذا جاز للعشرة ذلك ولم يخرجهم عن الخوف فكذلك غيرهم . وكان الشبلي يقول : أنا أمان هذا الجانب ; فلما مات ودفن عبر الديلم دجلة ذلك اليوم ، واستولوا على بغداد ، ويقول الناس : مصيبتان موت الشبلي وعبور الديلم . ولا يقال : إنه يحتمل أن يكون ذلك استدراجا لأنه لو جاز ذلك لجاز ألا يعرف النبي أنه نبي وولي الله ، لجواز أن يكون ذلك استدراجا ، فلما لم يجز ذلك لأن فيه إبطال المعجزات لم يجز هذا ، لأن فيه إبطال الكرامات . وما روي من ظهور الكرامات على يدي بلعام وانسلاخه عن الدين بعدها لقوله : فانسلخ منها فليس في الآية أنه كان وليا ثم انسلخت عنه الولاية . وما نقل أنه ظهر على يديه ما يجري مجرى الكرامات هو أخبار آحاد لا توجب العلم ; والله أعلم .والفرق بين المعجزة والكرامة أن الكرامة من شرطها الاستتار ، والمعجزة من شرطها الإظهار . وقيل : الكرامة ما تظهر من غير دعوى والمعجزة ما تظهر عند دعوى الأنبياء فيطالبون بالبرهان فيظهر أثر ذلك . وقد تقدم في مقدمة الكتاب شرائط المعجزة ، والحمد لله - تعالى - وحده لا شريك له . وأما الأحاديث الواردة في الدلالة على ثبوت الكرامات ، فمن ذلك ما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة رهط سرية وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة وهي بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فنفروا إليهم قريبا من مائتي راجل كلهم رام ، فاقتصوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم تمرا تزودوه من المدينة ، فقالوا : هذا تمر يثرب ; فاقتصوا آثارهم ، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدفد ، وأحاط بهم القوم ، فقالوا لهم : انزلوا فأعطونا أيديكم ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحدا ; فقال عاصم بن ثابت أمير السرية : أما فوالله لا أنزل اليوم في ذمة الكافر ، اللهم أخبر عنا نبيك ، فرموا بالنبل فقتلواعاصما في سبعة ، فنزل إليهم ثلاثة رهط بالعهد والميثاق ، وهم خبيب الأنصاري وابن الدثنة ورجل آخر ، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم ، فقال الرجل الثالث : هذا أول الغدر والله لا أصحبكم ; إن لي في هؤلاء لأسوة - يريد القتلى - فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه ; فانطلقوا بخبيب وابن الدثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر ، فابتاع خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بن عامر يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيرا ; فأخبر عبيد الله بن عياض أن بنت الحارث أخبرته أنهم حين اجتمعوا استعار منها موسى يستحد بها فأعارته ، فأخذ ابن لي وأنا غافلة حتى أتاه ، قالت : فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ، ففزعت فزعة عرفها خبيب في وجهي ; فقال : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك . قالت : والله ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب ; والله لقد وجدته يوما يأكل قطف عنب في يده ، وإنه لموثق بالحديد وما بمكة من ثمر ; وكانت تقول : إنه لرزق رزقه الله - تعالى - خبيبا ; فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب : دعوني أركع ركعتين ; فتركوه فركع ركعتين ثم قال : لولا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت ; ثم قال : اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تبق منهم أحدا ; ثم قال :ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان لله مصرعيوذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزعفقتله بنو الحارث ، وكان خبيب هو الذي سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا ; فاستجاب الله - تعالى - لعاصم يوم أصيب ; فأخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه خبرهم وما أصيبوا . وبعث ناس من كفار قريش إلى عاصم حين حدثوا أنه قتل ليؤتوا بشيء منه يعرفونه ، وكان قد قتل رجلا من عظمائهم يوم بدر ; فبعث الله على عاصم مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم ، فلم يقدروا على أن يقطعوا من لحمه شيئا . وقال ابن إسحاق في هذه القصة : وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد ، وقد كانت نذرت حين أصاب ابنيها بأحد لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر فمنعهم الدبر ، فلما حالت بينه وبينهم قالوا : دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه ، فبعث الله - تعالى - الوادي فاحتمل عاصما فذهب ، وقد كان عاصم أعطى الله - تعالى - عهدا ألا يمس مشركا ولا يمسه مشرك أبدا في حياته ، فمنعه الله - تعالى - بعد وفاته مما امتنع منه في حياته . وعن عمرو بن أمية الضمري : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه عينا وحده فقال : جئت إلى خشبة خبيب فرقيت فيها وأنا أتخوف العيون فأطلقته ، فوقع في الأرض ، ثم اقتحمت فانتبذت قليلا ، ثم التفت فكأنما ابتلعته الأرض . وفي رواية أخرى زيادة : فلم نذكر لخبيب رمة حتى الساعة ; ذكره البيهقي .الحادية عشرة : ولا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة يصون بها ماله وعياله ، وحسبك بالصحابة وأموالهم مع ولايتهم وفضلهم ، وهم الحجة على غيرهم . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال يا عبد الله ما اسمك قال فلان الاسم الذي سمعه في السحابة فقال له يا عبد الله لم سألتني عن اسمي قال إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه وفي رواية وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل .قلت : وهذا الحديث لا يناقضه قوله - عليه الصلاة والسلام - : لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا خرجه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال فيه حديث حسن ; فإنه محمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها ، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال ، وهي من أفضل الأموال ; قال - عليه الصلاة والسلام - : نعم المال الصالح للرجل الصالح . وقد أكثر الناس في كرامات الأولياء وما ذكرناه فيه كفاية ; والله الموفق للهداية .الثانية عشرة : قوله - تعالى - : لاتخذت عليه أجرا فيه دليل على صحة جواز الإجارة ، وهي سنة الأنبياء والأولياء على ما يأتي بيانه في سورة " القصص " إن شاء الله - تعالى - . وقرأ الجمهور لاتخذت وأبو عمرو " لتخذت " وهي قراءة ابن مسعود والحسن وقتادة ، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ ، مثل قولك : تبع واتبع ، وتقى واتقى وأدغم بعض القراء الذال في التاء ، ولم يدغمها بعضهم وفي حديث أبي بن كعب : ( لو شئت لأوتيت أجرا ) وهذه صدرت من موسى سؤالا على جهة العرض لا الاعتراض .فعند ذلك قال له الخضر هذا فراق بيني وبينك بحكم ما شرطت على نفسك . وتكريره بيني وبينك وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد . قال سيبويه : كما يقال أخزى الله الكاذب مني ومنك ; أي منا . وقال ابن عباس : وكان قول موسى في السفينة والغلام لله ، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا ، فكان سبب الفراق . وقال وهب بن منبه : كان ذلك الجدار جدارا طوله في السماء مائة ذراع .الثالثة عشرة : سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا تأويل الشيء مآله أي قال له : إني أخبرك لم فعلت ما فعلت . وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر : إنها حجة على موسى وعجبا له وذلك أنه لما أنكر أمر خرق السفينة نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم فلما أنكر أمر الغلام قيل له : أين إنكارك هذا من وكزك القبطي وقضائك عليه فلما أنكر إقامة الجدار نودي : أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر .
﴿ تفسير الطبري ﴾
القول في تأويل قوله تعالى : فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)يقول تعالى ذكره: فانطلق موسى والعالم ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ) من الطعام فلم يطعموهما واستضافاهم ( فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ )يقول: وجدا في القرية حائطا يريد أن يسقط ويقع ، يقال منه: انقضت الدار: إذا انهدمت وسقطت ، ومنه انقضاض الكوكب، وذلك سقوطه وزواله عن مكانه ، ومنه قول ذي الرُّمة:فانْقَضَّ كالكَوْكَبِ الدُّرّي مُنْصَلِتا (1)وقد رُوي عن يحيى بن يعمر أنه قرأ ذلك: ( يُريدُ أنْ يَنْقاضَّ ).وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب إذا قرئ ذلك كذلك في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم: مجاز ينقاضّ: أي ينقلع من أصله ، ويتصدّع، بمنزلة قولهم: قد انقاضت السنّ: أي تصدّعت، وتصدّعت من أصلها، يقال: فراق كقيض السنّ: أي لا يجتمع أهله.وقال بعض أهل الكوفة (2) منهم: الانقياض: الشقّ في طول الحائط في طيّ البئر وفي سنّ الرجل، يقال: قد انقاضت سنه: إذا انشقَّت طولا. وقيل: إن القرية التي استطعم أهلها موسى وصاحبه، فأبوا أن يضيفوهما: الأيلة.* ذكر من قال ذلك:حدثني الحسين بن محمد الذراع، قال: ثنا عمران بن المعتمر صاحب الكرابيسي، قال: ثنا حماد أبو صالح، عن محمد بن سيرين، قال: انتابوا الأيلة، فإنه قلّ من يأتيها فيرجع منها خائبا، وهي الأرض التي أبوا أن يضيفوهما ، وهي أبعد أرض الله من السماء.حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ) وتلا إلى قوله ( لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) شرّ القرى التي لا تُضِيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقه.واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قول الله عز وجل ( يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) فقال بعض أهل البصرة: ليس للحائط إرادة ولا للمَوَات، ولكنه إذا كان في هذه الحال من رثة فهو إرادته وهذا كقول العرب في غيره:يُريدُ الرُّمحُ صَدْرَ أبي بَرَاءٍوَيَرْغَبُ عَنْ دِماءِ بَنِي عُقَيْلِ (3)وقال آخر منهم: إنما كلم القوم بما يعقلون ، قال: وذلك لما دنا من الانقضاض، جاز أن يقول: يريد أن ينقض، قال: ومثله تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ وقولهم: إني لأكاد أطير من الفرح، وأنت لم تقرب من ذلك، ولم تهمْ به، ولكن لعظيم الأمر عندك ، وقال بعض الكوفيين منهم: من كلام العرب أن يقولوا: الجدار يريد أن يسقط ، قال: ومثله من قول العرب قول الشاعر:إنَّ دهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍلَزَمانٌ يَهُمُّ بالإحْسانِ (4)وقول الآخر:يَشْكُو إليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَىصَبْرًا جَمِيلا فَكِلانا مُبْتَلى (5)قال: والجمل لم يشك، إنما تكلم به على أنه لو تكلم لقال ذلك ، قال: وكذلك قول عنترة:وازْوَرَّ مِنْ وَقْعِ القَنا بِلَبانِهِوشَكا إليَّ بعَبْرَةٍ وَتحَمْحُمِ (6)قال: ومنه قول الله عز وجل: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ والغضب لا يسكت، وإنما يسكت صاحبه. وإنما معناه: سكن.وقوله: فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ إنما يعزم أهله ، وقال آخر منهم: هذا من أفصح كلام العرب، وقال: إنما إرادة الجدار: ميله، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم " لا تَرَاءى نارَاهُما " وإنما هو أن تكون ناران كلّ واحدة من صاحبتها بموضع لو قام فيه إنسان رأى الأخرى في القُرب ، قال: وهو كقول الله عز وجل في الأصنام: وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال: والعرب تقول: داري تنظر إلى دار فلان، تعني: قرب ما بينهما ، واستشهد بقول ذي الرُّمَّة في وصفه حوضا أو منزلا دارسا:قَدْ كادَ أوْ قَدْ هَمَّ بالبُيُودِ (7)قال: فجعله يهمّ، وإنما معناه: أنه قد تغير للبلى ، والذي نقول به في ذلك أن الله عزّ ذكره بلطفه، جعل الكلام بين خلقه رحمة منه بهم، ليبين بعضهم لبعض عما في ضمائرهم، مما لا تحسُّه أبصارهم، وقد عقلت العرب معنى القائل:في مَهْمَةٍ قَلِقَتْ بِهِ هاماتُهَاقَلَقَ الفُئُوسِ إذَا أرَدْنَ نُصُولا (8)وفهمت أن الفئوس لا توصف بما يوصف به بنو آدم من ضمائر الصدور مع وصفها إياهما بأنها تريد ، وعلمت ما يريد القائل بقوله:كمِثْلِ هَيْلِ النَّقا طافَ المُشاةُ بِهِيَنْهالُ حِينا ويَنْهَاهُ الثَّرَى حِينا (9)وإنما لم يرد أن الثرى نطق، ولكنه أراد به أنه تلبَّد بالندى، فمنعه من الإنهيال، فكان منعه إياه من ذلك كالنهي من ذوي المنطق فلا ينهال. وكذلك قوله: ( جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) قد علمت أن معناه: قد قارب من أن يقع أو يسقط، وإنما خاطب جل ثناؤه بالقرآن من أنزل الوحي بلسانه، وقد عقلوا ما عنى به وإن استعجم عن فهمه ذوو البلادة والعمى، وضل فيه ذوو الجهالة والغبا.وقوله: (فَأَقَامَهُ) ذكر عن ابن عباس أنه قال: هدمه ثم قعد يبنيه.حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، عن الحسن بن عُمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.وقال آخرون في ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) قال: رفع الجدار بيده فاستقام.والصواب من القول في ذلك أن يُقال: إن الله عزّ ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جدارًا يريد أن ينقضّ فأقامه صاحب موسى، بمعنى: عَدَل ميله حتى عاد مستويا.وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم ، وجائز أن يكون كان برفع منه له بيده، فاستوى بقدرة الله، وزال عنه مَيْلُه بلطفه، ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر للعذر قاطع بأي ذلك كان من أيّ.وقوله: ( قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) يقول: قال موسى لصاحبه: لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامتك أجرا، فقال بعضهم: إنما عَنَى موسى بالأجر الذي قال له ( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) القِرى: أي حتى يَقْرُونا، فإنهم قد أبوا أن يضيِّفونا.وقال آخرون: بل عنى بذلك العِوَض والجزاء على إقامته الحائط المائل.واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء أهل المدينة والكوفة ( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) على التوجيه منهم له إلى أنه لافتعلت من الأخذ ، وقرأ ذلك بعض أهل البصرة ( لَوْ شَئِتَ لَتَخِذْتَ ) بتخفيف التاء وكسر الخاء، وأصله: لافتعلت، غير أنهم جعلوا التاء كأنهم من أصل الكلمة، ولأن الكلام عندهم في فعل ويفعل من ذلك: تخِذ فلان كذا يَتْخَذُه تَخْذا، وهي لغة فيما ذكر لهُذَيل ، وقال بعض الشعراء:وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي لَدَى جَنْبِ غَرْزِهانَسيِفا كأفحُوصِ القَطاةِ المُطَرِّقِ (10)والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أني أختار قراءته بتشديد التاء على لافتعلت، لأنها أفصح اللغتين وأشهرهما، وأكثرهما على ألسن العرب.
﴿ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا ﴾