إعراب الآية 140 من سورة آل عمران - إعراب القرآن الكريم - سورة آل عمران : عدد الآيات 200 - - الصفحة 67 - الجزء 4.
تسلية عمَّا أصاب المسلمين يوم أُحُد من الهزيمة بأن ذلك غير عجيب في الحرب ، إذ لا يخلو جيش من أن يغلب في بعض مواقع الحرب ، وقد سبق أنّ العدوّ غُلب . والمسّ هنا الإصابة كقوله في سورة [ البقرة : 214 ] { مستهم البأساء والضراء } والقَرح بفتح القاف في لغة قريش الجرح ، وبضمِّها في لغة غيرهم ، وقرأه الجمهور : بفتح القاف ، وقرأه حمزة والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف : بضمّ القاف ، وهو هنا مستعمل في غير حقيقته ، بل هو استعارة للهزيمة الَّتي أصابتهم ، فإنّ الهزيمة تشبّه بالثلمة وبالانكسار ، فشبّهت هنا بالقرح حين يصيب الجسد ، ولا يصحّ أن يراد به الحقيقة لأنّ الجراح الَّتي تصيب الجيش لا يعبأ بها إذا كان معها النصر ، فلا شكّ أنّ التسلية وقعت عمّا أصابهم من الهزيمة .
والقوم هم مشركو مكة ومن معهم .
والمعنى إن هُزِمتم يوم أُحُد فقد هزم المشركون يوم بدر وكنتم كفافاً . ولذلك أعقبه بقوله : وتلك الأيام نداولها بين الناس } . والتَّعبير عمَّا أصاب المسلمين بصيغة المضارع في { يمسسكم } لقُربه من زمن الحال ، وعمّا أصاب المشركين بصيغة الماضِي لبعده لأنَّه حصل يوم بدر .
فقوله : { فقد مس القوم قرح } ليس هو جواب الشرط في المعنى ولكنّه دليل عليه أغنى عنه على طريقة الإيجاز ، والمعنى : إن يمسكم قرح فلا تحْزنوا أو فلا تهنوا وهَناً بالشكّ في وعد الله بنصر دينه إذ قد مسّ القومَ قرح مثله فلم تكونوا مهزومين ولكنّكم كنتم كفافاً ، وذلك بالنِّسبة لقلّة المؤمنين نصر مبين . وهذه المقابلة بما أصاب العدوّ يوم بدر تعيِّن أن يكون الكلام تسلية وليس إعلاماً بالعقوبة كما قاله جمع من المفسّرين . وقد سأل هرقل أبا سفيان : كيف كان قتالكم له قال «الحرب بيننا سِجَال يَنَالُ مِنَّا وننال منه ، فقال هرقل : وكذلك الرسل تبتلَى وتكون لهم العاقبة» .
وقوله : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } الواو اعتراضية ، والإشارة بتلك إلى ما سيُذكر بعدُ ، فالإشارة هنا بمنزلة ضمير الشأن لقصد الاهتمام بالخبر وهذا الخبر مكنّى به عن تعليل للجواب المحذوف المدلول عليه بجملة : { فقد مس القوم قرح مثله } .
و { الأيَّام } يجوز أن تكون جمع يوم مراد به يوم الحرب ، كقولهم : يوم بدر ويوم بُعاث ويوم الشَّعْثَمَيْن ، ومنه أيّام العرب ، ويجوز أن يكون أطلق على الزّمان كقول طرفة :
وما تَنْقُصصِ الأيَّامُ والدهرُ يَنْفَدِ ... أي الأزمان .
والمداولة تصريفها غريب إذ هي مصدر دَاول فلان فلاناً الشيء إذا جعله عنده دُولة ودوُلة عند الآخر أي يَدُولُه كُلٌّ منهما أي يلزمه حتَّى يشتهر به ، ومنه دال يَدُول دَوْلاً اشتهر ، لأنّ الملازمة تقتضِي الشهرة بالشيء ، فالتداول في الأصل تفاعل من دال ، ويكون ذلك في الأشياء والكلام ، يقال : كلام مُدَاوَل ، ثُمّ استعملوا داولت الشيء مجازاً ، إذا جعلت غيرك يتداولونه ، وقرينة هذا الاستعمال أن تقول : بينهم .
فالفاعل في هذا الإطلاق لا حظّ له من الفعل ، ولكن له الحظّ في الجعل ، وقريب منه قولهم : اضطررته إلى كذا ، أي جعلته مضطرّاً مع أنّ أصل اضطرّ أنَّه مطاوع ضَرّه .
و { النَّاس } البشر كلهم لأنّ هذا من السنن الكونية ، فلا يختصّ بالقوم المتحدّث عنهم .
{ وَلِيَعْلَمَ الله الذين ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } { وَلِيُمَحِّصَ الله الذين ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الكافرين } .
عطف على جملة { وتلك الأيام نداولها بين الناس } ، فمضمون هذه علّة ثانية لجواب الشرط المحذوف المدلول عليه بقوله : { فقد مس القوم قرح مثله } وعلم الله بأنّهم مؤمنون متحقق من قبل أن يمسهم القرح .
فإن كان المراد من { الَّذين آمنوا } هنا معنى الَّذين آمنوا إيماناً راسخاً كاملاً فقد صار المعنى : أنّ علم الله برسوخ إيمانهم يحصل بعد مَسِّ القرح إيّاهم ، وهو معنى غير مستقيم ، فلذلك اختلف المفسّرون في المراد من هذا التَّعليل على اختلاف مذاهبهم في صفة العِلم ، وقد تقرّر في أصول الدّين أن الفلاسفة قالوا : إنّ الله عالم بالكلّيات بأسرها ، أي حقائق الأشياء على ما هي عليه ، علماً كالعِلم المبحوث عنه في الفلسفة لأنّ ذلك العلم صفة كمال ، وأنَّه يعلم الجزئيات من الجواهر والأعراض علماً بوجه كلّي . ومعنى ذلك أنَّه يعلمها من حيث إنَّها غير متعلّقة بزمان ، مِثالُه : أن يعلم أنّ القمر جسم يوجد في وقت تكوينه ، وأنّ صفته تكون كذا وكذا ، وأنّ عوارضه النورانية المكتسبة من الشَّمس والخسوف والسَّير في أمد كذا . أمَّا حصوله في زمانه عندما يقع تكوينه ، وكذلك حصول عوارضه ، فغير معلوم لله تعالى ، قالوا : لأنّ الله لو علم الجزئيات عند حصولها في أزمنتها للزم تغيّر علمه فيقتضي ذلك تغيّر القديم ، أو لزم جهل العالِم ، مثاله : أنَّه إذا علم أنّ القمر سيخسف ساعة كذا علماً أزلياً ، فإذا خسف بالفعل فلا يخلو إمّا أن يزول ذلك العلم فيلزم تغيّر العلم السابق فيلزم من ذلك تغيّر الذات الموصوفةِ به من صفة إلى صفة ، وهذا يستلزم الحدوث إذ حدوث الصّفة يستلزم حدوث الموصوف ، وإمّا أن لا يزول العلم الأول فينقلب العلمُ جهلاً ، لأنّ الله إنَّما علم أنّ القمر سيخسف في المستقبل والقمر الآن قد خسف بالفعل . ولأجل هذا قالوا : إنّ علم الله تعالى غير زماني . وقال المسلمون كلّهم : إنّ الله يعلم الكلّيات والجزئيات قبل حصولها ، وعند حصولها . وأجابوا عن شبهة الفلاسفة بأن العلم صفة من قبيل الإضافة أي نسبة بين العالِم والمعلوم ، والإضافات اعتباريات ، والاعتباريات عدميات ، أو هو من قبيل الصّفة ذات الإضافة : أي صفة وجودية لها تعلّق ، أي نسبة بينها وبين معلومها .
فإن كان العلم إضافة فتغيّرها لا يستلزم تغيّر موصوفها وهو العالم ، ونظَّروا ذلك بالقديم يوصف بأنَّه قبل الحادث ومعه وبعده ، من غير تغيّر في ذات القديم ، وإن كان العلم صفة ذات إضافة أي ذات تعلّق ، فالتغيّر يعتري تعلّقها ولا تتغيّر الصّفة فضلاً عن تغيّر الموصوف ، فعلمُ اللَّهِ بأن القمر سيخسف ، وعلمُه بأنَّه خاسف الآن ، وعلمُه بأنَّه كان خاسفاً بالأمس ، علم واحد لا يتغيّر موصوفة ، وإن تغيّرت الصّفة ، أو تغيّر متعلّقها على الوجهين ، إلاّ أن سلف أهل السنّة والمعتزلة أبوا التَّصريح بتغيّر التعلُّق ولذلك لم يقع في كلامهم ذكر تعلقين للعلم الإلهي أحدهما قديم والآخر حادث ، كما ذكروا ذلك في الإرادة والقدرة ، نظراً لكون صفة العلم لا تتجاوز غيرَ ذات العالم تجاوزاً محسوساً . فلذلك قال سلفهم : إنّ الله يعلم في الأزل أنّ القمر سيخسف في سنتنا هذه في بلد كذا ساعة كذا ، فعند خسوف القمر كذلك عَلِم اللَّه أنَّه خسف بذلك العلم الأوّل لأنّ ذلك العلم مجموع من كون الفعل لم يحصل في الأزل ، ومن كونه يحصل في وقته فيما لا يزال ، قالوا : ولا يقاس ذلك على علمنا حين نعلم أنّ القمر سيخسف بمقتضى الحساب ثمّ عند خسوفه نعلم أنَّه تحقّق خسوفه بعلم جديد ، لأنّ احتياجنا لعلم متجدّد إنَّما هو لطريان الغفلة عن الأول . وقال بعض المعتزلة مثل جَهْم بن صَفْوَان وهِشام بن الحَكم : إنّ الله عالم في الأزل بالكلّيات والحقائق ، وأمَّا علمه بالجزئيات والأشخاص والأحوال فحاصل بعد حدوثها لأنّ هذا العلم من التصديقات ، ويلزمه عَدم سبق العلم .
وقال أبو الحُسين البصري من المعتزلة ، رادّاً على السلف : لا يجوز أن يكون علم الله بأنّ القمر سيخسف عين علمه بعد ذلك بأنَّه خسف لأمور ثلاثة : الأوّل التغايُر بينهما في الحقيقة لأنّ حقيقة كونه سيقع غيرُ حقيقة كونه وقع ، فالعلمُ بأحدهما يغاير العلم بالآخر ، لأنّ اختلاف المتعلّقين يستدعي اختلاف العالم بهما . الثَّاني التغاير بينهما في الشرط فإنّ شرط العلم بكون الشيء سيقع هو عدم الوقوع ، وشرط العلم بكونه وقَع الوقوعُ ، فلو كان العلمان شيئاً واحداً لم يختلف شرطاهُما . الثَّالث أنّه يمكن العلم بأنَّه وقع الجهل بأنَّه سيقع وبالعكس وغير المعلوم غير المعلوم ( هكذا عبّر أبو الحسين أي الأمر الغير المعلوم مغاير للمعلوم ) ولذلك قال أبو الحسين بالتزام وقوع التَّغير في علم الله تعالى بالمتغيِّرات ، وأنّ ذاته تعالى تقتضي اتّصافه بكونه عالماً بالمعلومات الَّتي ستقع ، بشرط وقوعها ، فيحدث العلم بأنَّها وجدت عند وجودها ، ويزول عند زوالها ، ويحصل علم آخر ، وهذا عين مذهب جهم وهشام . ورُدّ عليه بأنَّه يلزم أن لا يكون الله تعالى في الأزل عالماً بأحوال الحوادث ، وهذا تجهيل . وأجاب عنه عبد الحكيم في «حاشية المواقف» بأنّ أبا الحسين ذهب إلى أنَّه تعالى يعلم في الأزل أنّ الحادث سيقع على الوصف الفلاني ، فلا جهل فيه ، وأنّ عدم شهوده تعالى للحوادث قبل حدوثها ليس بجهل ، إذ هي معدومة في الواقع ، بل لو علمها تعالى شهودياً حينَ عدمها لكان ذلك العلم هو الجهل ، لأنّ شهود المعدوم مخالف للواقع ، فالعلم المتغيّر الحادث هو العلم الشهودي .
فالحاصل أنّ ثمة علمين : أحدهما قديم وهو العلم المشروط بالشروط ، والآخر حادث وهو المعلوم الحاصلة عند حصول الشروط وليست بصفة مستقلّة ، وإنَّما هي تعلّقات وإضافات ، ولذلك جرى في كلام المتأخّرين ، من علمائنا وعلماء المعتزلة ، إطلاق إثباتتِ تعلّققٍ حادثثٍ لعلم الله تعالى بالحوادث . وقد ذكر ذلك الشَّيخ عبد الحكيم في «الرسالة الخاقانية» الَّتي جعلها لِتحقيق علم الله تعالى غير منسوب لقائل ، بل عبّر عنه بقيل ، وقد رأيت التفتزاني جرى على ذلك في «حاشية الكشّاف» في هذه الآية فلعل الشَّيخ عبد الحكيم نسي أن ينسبه .
وتأويل الآية على اختلاف المذاهب : فأمَّا الّذين أبو إطلاق الحدوث على تعلّق العلم فقالوا في قوله : { وليعلم الله الذين آمنوا } أطلق العلم على لازمه وهو ثبوت المعلوم أي تميّزه على طريقة الكناية لأنَّها كإثبات الشيء بالبرهان ، وهذا كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلت والخطيّ يخطِر بينا ... لأَعْلَمَ مَن جَبَانَها مِنْ شجاعها
أي ليظهر الجبان والشُّجاع فأطلق العلم وأريد ملزومه .
ومنهم من جعل قوله : { وليعلم الله } تمثيلاً أي فعل ذلك فِعْلَ من يريد أن يعلم وإليه مال في «الكشاف» ، ومنهم من قال : العلّة هي تعلّق علم الله بالحادث وهو تعلّق حادث ، أي ليعلم الله الَّذين آمنوا موجودين . قاله البيضاوي والتفتزاني في «حاشية الكشّاف» . وإن كان المراد من قوله : { الذين آمنوا } ظاهرَهُ أي ليعلم من اتَّصف بالإيمان ، تعيّن التأويل في هذه الآية لاَ لأجل لزوم حدوث علم الله تعالى ، بل لأنّ علم الله بالمؤمنين من أهل أُحُد حاصل من قبللِ أن يمسّهم القرح ، فقال الزجاج : أراد العِلمَ الَّذي يترتّب عليه الجزاء وهو ثباتهم على الإيمان ، وعدم تزلزلهم في حال الشدّة ، وأشار التفتزاني إلى أنّ تأويل صاحب «الكشاف» ذلك بأنَّه وارد مورد التمثيل ، ناظر إلى كون العلم بالمؤمنين حاصلاً من قبل ، لا لأجل التحرّز عن لزوم حدوث العلم .
وقوله : { ويتخذ منكم شهداء } عطف على العلّة السابقة . وجعل القتل في ذلك اليوم الَّذي هو سبب اتِّخاذ القتلى شهداء علَّة من علل الهزيمة ، لأنّ كثرة القتلى هي الَّتي أوقعت الهزيمة .
والشهداء هم الَّذين قُتلوا يوم أُحُد ، وعبّر عن تقدير الشهادة لهم بالاتّخاذ لأنّ الشهادة فضيلة من الله ، واقتراب من رضوانه ، ولذلك قوبل بقوله : { والله لا يحب الظالمين } أي الكافرين فهو في جانب الكفّار ، أي فقتلاكم في الجنَّة ، وقتلاهم في النَّار ، فهو كقوله : { قل هل تربّصون بنا إلاّ إحدى الحسنيين } [ التوبة : 52 ] .
والتَّمحيص : التنقية والتخليص من العيوب .
المصدر : إعراب : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين