﴿ أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ﴾
﴿ تفسير السعدي ﴾
أي: أيطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين الله؟ لا يحسن هذا ولا يليق، لأنه لا أحسن دينا من دين الله وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها أي: الخلق كلهم منقادون بتسخيره مستسلمون له طوعا واختيارا، وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم، وكرها وهم سائر الخلق، حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره لا خروج لهم عنه، ولا امتناع لهم منه، وإليه مرجع الخلائق كلها، فيحكم بينهم ويجازيهم بحكمه الدائر بين الفضل والعدل.
﴿ تفسير الوسيط ﴾
وبعد أن بين- سبحانه- أن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حق لا ريب فيه، وأنه واجب على جميع من مضى من الأنبياء والأمم، عقب ذلك ببيان أن كل من كره الإيمان بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فإنه يكون بعيدا عن الدين الحق، مستحقا للعقاب الأليم فقال- تعالى- «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» .والاستفهام للإنكار والتوبيخ، وهمزة الاستفهام داخلة على فعل محذوف، والفاء الداخلة على «غير» عاطفة لجملة «يَبْغُونَ» على ذلك المحذوف الذي دل عليه الاستفهام وعينه المقام.والمعنى: أيتولون عن الإيمان بعد هذا البيان فيبغون دينا غير دين الله الذي هو الإسلام.ومعنى «يَبْغُونَ» يطلبون. يقال بغى الأمر يبغيه بغاء- بضم الباء- أى طلبه. وقوله- تعالى- «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» جملة حالية. أى أيبغون دينا غير دين الله والحال أن الله- تعالى- استسلم وانقاد وخضع له من في السموات والأرض طوعا وكرها. أى طائعين وكارهين فهما مصدران في موضع الحال.والمراد أن كل من في السموات والأرض قد انقادوا وخضعوا لله- تعالى- إما عن طواعية واختيار وهم المؤمنون لأنهم راضون في كل الأحوال بقضائه وقدره، ومستجيبون له في المنشط والمكره والعسر واليسر. وإما عن تسخير وقهر وهم الكافرون لأنهم واقعون تحت سلطانه العظيم وقدرته النافذة، فهم مع كفرهم لا يستطيعون دفع قضائه- سبحانه- وإذن فهم خاضعون لسلطانه- عز وجل- لأنهم لا سبيل لهم ولا لغيرهم إلى الامتناع عن دفع ما يريده بهم.هذا، وقد ساق الفخر الرازي جملة آراء في معنى الآية الكريمة ثم اختار أحدها فقال ما ملخصه: في خضوع من في السموات والأرض لله وجوه: أصحها عندي أن كل ما سوى الله- سبحانه- ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده، ولا يعدم إلا بإعدامه، فإن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه. وهذا هو نهاية الخضوع والانقياد. ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى: وهي أن قوله «وَلَهُ أَسْلَمَ» يفيد الحصر، أى وله كل ما في السموات والأرض لا لغيره.فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد، وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه، ولا يفنى إلا بإفنائه والآيات في هذا المعنى كثيرة.وقوله «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» أى إليه وحده يرجع الخلق فيجازى كل مخلوق بما يستحقه من خير أو شر.ففي الجملة الكريمة تحذير من الإعراض عن دينه، لأنه ما دام مرجع الخلق جميعا إليه- سبحانه- فعلى العاقل أن يسلم نفسه إلى خالقه اختيارا قبل أن يسلمها اضطرارا، وأن يستجيب لأوامره ونواهيه، حتى ينال رضاه.وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد أقامت للناس الأدلة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمرتهم بالدخول في دينه، وحذرتهم من الإعراض عنه بأجلى بيان وأقوى برهان.وبعد هذا البيان الواضح والبرهان الساطع على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر الله- تعالى- نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يعلن على الدنيا كلمة الحق التي يؤمن بها، وأن يخبر كل من يتأتى له الخطاب بأن الدين المقبول عند الله هو دين الإسلام وأن كل دين سواه فهو باطل. لأن رسالته صلّى الله عليه وسلّم هي خاتمة الرسالات ودين الإسلام الذي أتى به ناسخ لكل دين سواه. استمع إلى القرآن وهو يبين ذلك فيقول:
﴿ تفسير البغوي ﴾
قوله عز وجل : ( أفغير دين الله يبغون ) وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادعى كل واحد أنه على دين إبراهيم عليه السلام واختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم عليه السلام " فغضبوا وقالوا : لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك ، فأنزل الله تعالى : ( أفغير دين الله يبغون ) قرأ أبو جعفر وأهل البصرة وحفص عن عاصم ( يبغون ) بالياء لقوله تعالى ( وأولئك هم الفاسقون ) وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى ( لما آتيتكم ) ، ( وله أسلم ) خضع وانقاد ، ( من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) فالطوع : الانقياد والاتباع بسهولة ، والكره : ما كان بمشقة وإباء من النفس .واختلفوا في قوله ( طوعا وكرها ) قال الحسن : أسلم أهل السماوات طوعا وأسلم من في الأرض بعضهم طوعا وبعضهم كرها ، خوفا من السيف والسبي ، وقال مجاهد : طوعا المؤمن ، وكرها ذلك الكافر ، بدليل : " ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال " ( الرعد - 15 ) وقيل : هذا يوم الميثاق حين قال لهم : " ألست بربكم قالوا بلى " ( الأعراف - 172 ) فقال : بعضهم طوعا وبعضهم كرها ، وقال قتادة : المؤمن أسلم طوعا فنفعه ، والكافر أسلم كرها في وقت البأس فلم ينفعه ، قال الله تعالى : " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا " ( غافر - 85 ) وقال الشعبي : هو استعاذتهم به عند اضطرارهم كما قال الله تعالى : " فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين " ( العنكبوت - 65 ) .وقال الكلبي : طوعا الذي ( ولد ) في الإسلام ، وكرها الذين أجبروا على الإسلام ممن يسبى منهم فيجاء بهم في السلاسل ، ( وإليه يرجعون ) قرأ بالياء حفص عن عاصم ويعقوب كما قرأ ( يبغون ) بالياء وقرأ الباقون بالتاء فيهما إلا أبا عمرو فإنه قرأ ( يبغون ) بالياء و ( ترجعون ) بالتاء ، وقال : لأن الأول خاص والثاني عام ، لأن مرجع جميع الخلق إلى الله عز وجل .